شحاتة زكريا يكتب.. وطن الصمود وملحمة البقاء
في قلب كل صرخة حرة وفي أعماق كل شعور بالانتماء تظل فلسطين مرآة تعكس صلابة الإنسان في مواجهة الطغيان. لقد مرّ التاريخ بأمم طمست وأخرى انكسرت، لكن فلسطين استثنائية في نضالها حيث أصبحت القضية التي تُعرّف الحرية بمعناها الأسمى والعدالة كحلم لا ينكسر تحت وطأة السلاح أو زيف الدبلوماسية.
عندما نتحدث عن غزة لا نتحدث عن مدينة جغرافية وحسب بل عن رمزٍ إنسانيّ يتجاوز حدود المكان. غزة ليست مجرد بقعة من الأرض، بل هي صوت كل مضطهد وروح كل مقاوم، وشاهد على إرادة شعب اختار أن يكون حرا مهما كان الثمن.
إن الناظر إلى تاريخ الصراع الفلسطيني لا يرى مجرد نزاع سياسي، بل يرى مواجهة وجودية فيها طرف يُحارب من أجل البقاء، وآخر يسعى لطمس هذا الوجود. وبينما كان الرهان على الوقت لإرهاق شعبها وإخماد جذوة كفاحه، أثبت الفلسطيني أنه استثناء في هذه المعادلة. كل بيت دُمّر، كل روح ارتقت، كل دم سال كان بمثابة بيان جديد يُعلن للعالم أن الحرية أغلى من الحياة نفسها.
ما يجعل هذه القضية فريدة من نوعها ليس فقط عدالتها بل أيضا صمود أهلها. في عالم يتغير فيه التحالفات وتتبدل المصالح تظل فلسطين الثابتة التي لا تتغير. ورغم أن القضية تعرضت على مدار عقود إلى محاولات استغلال وتشويه فإنها دائما ما تعود إلى أصحابها الحقيقيين: شعبها الصامد.
منذ عقود طويلة راهنت إسرائيل على تفتيت هذا الشعب وإحباطه لكن غزة ، بسكانها وبصمودها ، قلبت الطاولة. في كل مواجهة جديدة يتجلى درسٌ لا يُمحى: أن الصمود هو السلاح الأقوى، وأن الاحتلال مهما بلغ جبروته يظل عاجزا أمام إرادة لا تنكسر.
ما حدث في السنوات الأخيرة كان كاشفا أكثر من كونه مُفاجئا حين بدأت أصوات المقاومة تتعالى، لم يكن أحد يتصور أن تجد نفسها تُفاوض خصما ظنّ نفسه عصيا على التراجع. وحينما بدأت المقاومة تُلهم الشعوب المقهورة في مختلف أنحاء العالم أصبح من الواضح أن هذه القضية ليست فقط عن أرض تُغتصب بل عن كرامة إنسانية تُدافع عن حقها في الحياة.
في صمود أهل فلسطين نتعلم أن الحرية ليست منحة بل استحقاق ينتزع بالقوة والإرادة. كل شهيد في هذا الطريق هو شهادة على أن الدماء أغلى من التنازلات وأن الحقوق لا تُستجدى بل تُنتزع.
هذا الدرس لا يقتصر على الفلسطينيين وحدهم بل هو رسالة لكل الشعوب المقهورة. لقد أعادت غزة تعريف النصر فلم يعد مرتبطا بحجم الأرض التي تسيطر عليها، بل بمدى حفاظك على كرامتك وهويتك.
القضية الفلسطينية هي اليوم أكثر من أي وقت مضى قضية إنسانية ، تتجاوز حدود الدين والعرق. هي معركة الحق ضد الباطل، والعدل ضد الظلم والشجاعة ضد الجبن. وبينما يظن البعض أن الزمن كفيل بإنهاء هذا الصراع، يثبت التاريخ أن الزمن ليس سوى شاهد على صلابة الفلسطينيين، وعلى فشل كل محاولات كسر إرادتهم.
في كل مرة يُحاول الاحتلال أن يطمس الحقيقة، يأتي الفلسطيني ليُعيد رسمها بالدم. وفي كل مرة يُعتقد أن القضية قد تراجعت، يعود الشارع الفلسطيني ليُثبت أنه أصل الحكاية وجوهرها.
إنها لحظة تاريخية تستحق التوقف عندها لحظة يعود فيها الشعب إلى مركز الحدث ويُعيد تعريف قضيته بطريقته الخاصة. ومع كل روح تُزهق دفاعًا عن هذا الوطن، ومع كل جرح ينزف يولد أمل جديد بأن هذا الشعب سيظل دائما على العهد وأن قضيته ستبقى حيّة مهما تكالبت عليها المصاعب.
ختاما القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية سياسية، بل هي ملحمة إنسانية تستحق أن تُروى. ملحمة تُخبر العالم أن الحرية ليست شعارا يُرفع في المؤتمرات ، بل تضحيات تُقدم على أرض الواقع. إنها قصة شعب لم يُسلم بواقعه، بل اختار أن يكتب تاريخه بيديه ويُعيد تشكيل مستقبله بإرادته. فمن غزة إلى القدس ، ومن كل قرية دُمرت إلى كل مدينة صمدت، ستظل فلسطين شاهدا حيا على أن الأوطان لا تُحرر إلا بالدم وأن الكرامة لا تُشترى، بل تُنتزع انتزاعا.