الجمعة، 22 نوفمبر 2024

06:13 ص

رئيس مجلس الإدارة

محمد رزق

رئيس التحرير

أمين صالح

رئيس مجلس الإدارة

محمد رزق

رئيس التحرير

أمين صالح

الدكتور محمد فؤاد يكتب.. مصر التي داخل الصندوق 6

الدكتور محمد فؤاد

الدكتور محمد فؤاد

A A

على مدار 5 حلقات سابقة من سلسلة "مصر التي داخل الصندوق"، حاولت تأصيل فكرة أن الصندوق على المستوى الاقتصادي، به ما هو كفيل بإصلاح أي أزمة، خاصة أنه قد تعامل مع إشكاليات عديدة وتجارب مختلفة على مدار عقود حتى استقر ما بداخله من أسس وعلوم وخطط مناسبة لكل وضع، لأنه لا يوجد أي داعٍ لاستهلاك الوقت والجهود في البحث عن أفكار خارج هذا الصندوق، غير مضمونة النتائج بل تزيد الطين “بلة” في أحيان كثيرة.

وفي تقديري فإن الكتاب الصادر مؤخرا تحت عنوان : "الاقتصاد السياسي لإدارة الأزمة والإصلاح في مصر"، لمحمود محيي الدين، حنان أمين سالم، أميرة الشال وإيمان مصطفى، يمثل مرجعا رشيقا يطرق باب العلم المشفوع بالبيانات، وهو بالضبط ما يتحدث عنه الصندوق ونفتقده في حالتنا، في ظل تجنيب التحليل العلمي الهادئ المنطقي، الذي ينطلق من نظريات مستقرة ومقارنات موضوعية، رغم أن هذا النوع من النقاش هو الذي تتقدم به الدول وتُحل من خلاله أزماتها.

يستعرض الكتاب التحولات الحادة في السياسة الاقتصادية منذ عام 1952، والتي شهدت وصول الضباط الأحرار إلى السلطة في مصر، حيث سعى النظام الجديد إلى ترسيخ شرعيته وإيجاد نموذج اقتصادي قد افتقد فلسفة اقتصادية معينة، إلى أن تحولت مصر في الستينيات إلى اقتصاد تقوده الدولة، مع التركيز المستمر على المشروعات الضخمة، والتخطيط المركزي.

وما لبث النظام أن غيّر مساره مع سياسة "الانفتاح" في السبعينيات، مع اختلافات في تطبيقها خلال الثمانينيات، وأعقب ذلك في التسعينيات بداية من برنامج الإصلاح الاقتصادي والهيكلي، ثم التحول في عام 2004 إلى سياسات داعمة للنمو والاستثمار، حتى تداعيات الأزمة المالية العالمية في عام 2008.

وطوال هذه الفترة، شهدت مصر عدة صدمات، و بسبب تجنب البلاد لإصلاحات جوهرية أعمق، فشلت في الحفاظ على معدلات النمو والتنمية، حيث اعتمدت على تلك الأفكار التي من شأنها إرجاء مواجهات الأزمة وتصديرها لما هو قادم، رغم كارثية ذلك في شأن تمعن الأزمة وتصعيب آليات حلها.

ويستعرض الكتاب استراتيجيات مصر لإدارة الأزمات استجابة للصدمات العالمية الثلاثية (المالية والغذاء والوقود)، ثم يغطي جهود السياسة لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد المدعوم من قبل الحكومة وتأثيرات جائحة كوفيد-19 على الاقتصاد الكلي والنظام الصحي وهكذا تأثير الحرب في أوكرانيا.

ويحاول الكتاب، الإجابة عما إذا كانت إدارة الأزمات في مصر تساعد البلاد على استئناف النمو والتنمية بعد هذه النكسات، عن طريق مقارنة أداء مصر بأداء الدول النامية الناجحة عبر المعايير التنموية الرئيسية.

يعطي في هذا الشأن ملحوظات جوهرية للغاية تتطلب الاعتبار الجم، أولها أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر لم تقترب من المستويات التي شهدتها البلدان ذات الأداء العالي، مما يشير إلى أن الدولة لم تستغل بشكل كامل الفوائد المزدوجة لرأس المال والمعرفة التي يجلبها الاستثمار الأجنبي المباشر عادة.

ويتجلى هذا بشكل خاص عند مقارنة الأرقام في مصر بالارتفاعات الحادة في الاستثمار الأجنبي المباشر التي شهدتها بلدان أخرى، والتي تزامنت مع فترات الإصلاح الاقتصادي أو الانفتاح الكبير.

أيضا يبرز الكتاب أن مصر تعاني بشكل صارخ من بين مجموعة النظراء المختارة، حيث إن قطاع التصدير ضعيف نسبيًا، فضلاً عن مشاركة القطاع الخاص الهزيلة أيضا، فقد انخفضت حصة مصر من الصادرات العالمية بشكل حاد منذ عام 1960، في حين شهدت جميع الدول النظيرة، باستثناء واحدة، زيادة في حصصها من الصادرات العالمية بمرور الوقت، كما ظلت حصة صادرات السلع والخدمات في إجمالي الناتج المحلي لمصر، راكدة مع مرور الوقت، حيث تبلغ الحصة الحالية 20% فقط من الناتج المحلي، وهي نفس النسبة في عام 1960.

كما يتناول الكتاب العلاقة بين النمو والفقر وعدم المساواة، مسلطا الضوء على أهمية الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية جنبا إلى جنب مع الحكم الرشيد كوسيلة رئيسية لكسر الحلقة المفرغة، لمقاومة الإصلاح التي شهدتها مصر مرارا وتكرارا.

ويتناول السرد بشكل نقدي تبني "الأفكار السيئة" في السياسة الاقتصادية ويؤكد ضرورة التخلي عنها من أجل إصلاحات شاملة ومستدامة، تلك الأفكار التى تحدثت عنها هنا في هذه السلسلة، تلك التي تشذ عن الصندوق.

ومن خلال تسليط الضوء على التحديات التي تواجهها مصر وسط "أزمة عالمية"، يدعو الكتاب إلى وضع إطار عملي للسياسة الاقتصادية، يعطي الأولوية لتجنب الضرر ويعزز النمو الشامل، متناولا أساسيات تمويل النمو، وإدارة الديون بطريقة مسؤولة، والأهمية الحاسمة لاستهداف التضخم، إلى جانب تشجيع الصادرات واتباع نهج متوازن للواردات.

يؤكد هذا الكتاب أيضًا حاجة مصر إلى الاستفادة من التحول الرقمي لتوطين التنمية المستدامة وتعزيز الإصلاحات الهيكلية لضمان المرونة الاقتصادية والشمولية والاستدامة، وينتهي بتقديم نظرة شاملة لمسار مصر إلى الأمام، مع التركيز على الاستثمار في رأس المال البشري، والبنية التحتية، والدور الحاسم الذي تلعبه عملية صنع السياسات الفعالة والشاملة.

يمكن القول بكل أريحية أن الكُتاب قد أنتجوا واحدا من أفضل الكتب عن الاقتصاد المصري التي تمت كتابتها منذ عقود، فما في داخله يوفر فحصًا دقيقًا للغاية للمسار الاقتصادي في مصر خلال السبعين عامًا الماضية، ويأتي الناتج في تقييم موضوعي يعتمد على مراجعات النظريات المستقرة والأهم من ذلك أنه مدعوم بالبيانات.

كما لا يتوقف العمل عند سرد القصة أو تقديم النقد البناء، بل يصف خارطة طريق واضحة للمستقبل، وفي تقديري يعد الكتاب منتجا يجب أن يحظى بتقدير كبير من قبل العلماء وصانعي السياسات على حد سواء.
وبصرف النظر عن المحتوى الملهم، فإن هذا العمل يأتي بمثابة بصيص من الأمل، وضوء ساطع في المشهد الاقتصادي المحلي، الذي يميل إلى تجنب العلوم والبيانات والاعتماد على الحلول "اللوذعية" أو كما وصفها الكتاب بـ"الأفكار السيئة"، فجزيل الشكر للمؤلفين على هذه المساهمة القيمة ولإتاحة هذا الناتج الرائع للجميع.

ختاما.. مضمون هذا الكتاب وما يحويه يجب أن يكون مرجعا مهما لأصحاب القرار الاقتصادي في مصر، فهو بمثابة خارطة طريق -بالمناسبة من داخل الصندوق- لانتشال الدولة من الظرف الذي تمر به ووضعها في الإطار الصحيح والسليم للتنمية والنمو.

search