ماجدة إبراهيم تكتب: قطعة الحلوى
ماجدة إبراهيم
نظرات مذعورة وآهات مكتومة، ويدان صغيرتان تضعهما نسيمة على فم أخيها معاذ ذو الثلاث سنوات تخشي، أن تخرج من بين شفتيه صرخة ينتبه العدو لوجودهما بين حطام البيت.
البيت الذي كان في يوم من الأيام ملاذهما الآمن، ومكان للهو واللعب والضحكات التي كانت تخرج من القلب بلا خوف، تقبض الأخت الكبيرة ذات السبع سنوات على يد أخيها معاذ وتهدهد على ركبتيّ أختها شروق التي راحت في نوم عميق أو ربما تكون قد ارتقت إلى السماء فهي لا تعرف، فالخوف يسيطر على نسيمة والقلق يحاصر عيونها الصغيرة فقتلة الأبرياء ومغتصبي أرضهم يحومون حول منزلهم ليتأكدوا أن كل من في البيت قد قتل، وعلى مد بصرها ترى جسد والدها ووالدتها واخيها واختها الكبار ممددون بسلام وقد شطرت القنابل والمتفجرات أجسادهم إلى نصفين.
أغمضت عينيها فالمنظر بدى قاسيا ومن قسوته تساقطت دموع نسيمة وارتعدت أوصالها، لكنها التزمت الصمت حتي فحص المحتلون الجثث الملقاة بشماته وسعادة.
وابتعدت ضحكات العدو بعد أن عبثت في أشلاء الشهداء بالأقدام تارة وبالأسلحة تارة أخرى، ولم تسلم هواتفهم من التقاط الصور لتوثيق جرائمهم التي يعتبرها هؤلاء القتلة إنجاز وانتصار.
ما أن تلاشت أصواتهم الكريهة حتي انفجرت طفولتها بكل ما تحمله من ذل وهوان وقهر وسيل من الدموع والآهات التي وصلت لحد الصراخ شاركها فيها أخيها معاذ وهو لا يعرف لماذا تفعل أخته ذلك الآن، فانتفضت الرضيعة من غفوتها وبدأت تحدق في أختها وتشاركها البكاء، فانتبهت نسيمة لأختها التي ظنت أنها ماتت فتوقفت فجأة عن البكاء وضمتها بحنان سنواتها السبع حتى تهدأ وبدأت تداعب شقيقها معاذ حتى يتوقف عن الصراخ وأخرجت من جيب فستانها الذي لطّخته معركة الموت قطعه من الحلوى كانت تحتفظ بها منذ عدة أيام لتختلي بنفسها وتتذوقها في خلسة من أخوتها.
شعرت نسيمة أن هذا هو الوقت المناسب الذي يجب أن تخرج فيه خبيئتها وتقدمها بكل حب وعندما رأى معاذ الحلوى فكأنما رأى أجمل شيء في الدنيا ولمعت عينيه وتوقف عن الصراخ والبكاء، ومد يده بعفويه ينتشلها وقبل أن يضعها في فمه الصغير تذكر أن نسيمة تستحق أن تشاركه ولو بجزء صغير منها فقام بقطم جزء من الحلوى ومد يده بما تبقي وعينيه الصغيرتين ترقص فرحا بما أنجزه فالريق مبلل بطعم الحلوى التي لم يتذوقها منذ ليالٍ طويلة لا يعرف عددها، وأخته ستقاسمه إحساس ذوبان الحلوى في الحلق ويتبدل حال الأطفال من صراخ وبكاء إلى ابتسامات وأصوات الاسنان وهي تدغدغ الحلوى وتفرمها بين الشفاه فتنظر الرضيعة وينتابها حالة من الانتشاء والضحك وتنتظر دورها في الحصول علي نصيب مما تلوكه أفواههم.
ومن شدة النهم في نظراتها تمضغ نسيمة قطعه صغيرة جدا من الحلوة تضعها على شفاه الرضيعة فتنطلق رائحة الحلوى النفاذة إلى أنف رضيعتهم فتبدأ في تحريك لسانها لتمتص فتات الحلوى وتسري في جسدها حالة من النشوة وكأن ملائكة السماء تحلق حول رأسها تداعبها، لتنسيها أنها يتيمة الاب والام .. بلا سند ولا مأوي ..
وسط كل هذا الدمار كان يحمل سلاحه الذي يسلطه في وجه عدو غادر يلتقط صور توثق جرائم محتل غاصب وينشرها علي صفحات «السوشيال ميديا» ليزداد المعارضون ملايين الملايين وتنزل المظاهرات في كل العالم لتنادي فلسطين حرة.
ابتسم سامر عندما شاهد هذة اللوحة الفنية المبهجة التي تولد من رحم الألم لوحة قطعة الحلوى التي أدخلت السعادة علي ثلاث أطفال يتامى كل ممتلكاتهم هذه الحلوى التي أذابت بداخلهم كل مرارة الموت والفراق .. ولو لدقائق أو لساعات.. لم يترك مشاعر الفطرة إلا وقد التقط بعدسته عشرات الصور الملهمة لشعب كتب بحروف من دم .. فلسطين حرة رغم الحصار.. فلسطين أبية رغم القهر.
أخبار ذات صلة
الأكثر مشاهدة
هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل الإنسان في سوق العمل؟
-
نعم
-
لا
أكثر الكلمات انتشاراً