د. محمد فؤاد يكتب .. «مصر .. التنمية الاقتصادية والسياسات»
محمد فؤاد الخبير الاقتصادي
خلال مسار الدولة المصرية اقتصاديا منذ انتهاء الملكية، قد برزت عقول متفردة حاولت أن تقرأ المستقبل وأن تقدم رؤى ثاقبة وخططا للتنمية، لم تكن مجرد أفكار أو مقترحات عابرة، بل مشاريع ناضجة محددة وقادرة على وضع اقتصاد الدولة في مكانة متقدمة ينافس بها إقليميا ودوليا، ويدفعها من خندق الدول النامية إلى تلك المنتجة، لكن للأسف لم يكتب لها التنفيذ.
وعليه استمر الوضع في مسار كان من المؤكد أفضليته عما هو عليه الآن، فالنجاح المستدام من المستحيل أن يكمن فقط في السياسات المؤقتة، بل في بناء اقتصاد متين ينمي الثروات ويحقق التوازن بين طموحات الدولة واحتياجات الشعب ويستشرف احتياجات المستقبل، وهو ما يجب أن يذكرنا دائما بقيمة الإنصات إلى المبدعين، لما تتيحه أفكارهم من فرص لنهضة شاملة سابقة لوقتها، تعفي من معاناة وتكاليف باهظة وتضحيات يمكن تداركها من خلال مسارات مدروسة.
وأخص تحديدا اسمين لعظيمين، قد ذكرهم الدكتور محمود محيي الدين، خلال مناقشات مشروع مؤتمر مصر: التنمية الاقتصادية والسياسات EEDP، أولهما د. إسماعيل صبري عبد الله ( 1925 ـ 2006)، ذاك العلامة الذي يعد من أوائل الاقتصاديين الذين ساهموا في وضع خطط تنموية شاملة لمصر، لعل أبرزها خطة التنمية الخمسية الأولى في السبعينيات، التي هدفت إلى تحفيز قطاع الصناعة وتشجيع الإنتاج المحلي، بجانب دوره في صياغة السياسات الاقتصادية الهادفة إلى التنمية المستدامة،.
أيضا المشروع الذي نتج عن رئاسته منتدى العالم الثالث، حيث عكف من خلاله على الخروج بمشروع بحثي جبار بالتعاون مع مجموعة من خيرة الباحثين والمفكرين المصريين والعرب، يستشرف أحوال مصر عام 2020، ويحاول وضع التصورات المستقبلية لمصر وكيفية مواجهة التحديات بإصدارات بلغت 24 كتابا، فضلا عن عدد من الأوراق والكتيبات المهمة.
ومثله د. سعيد علواني النجار (1920 - 2004) من خلال إسهاماته المتعلقة بالتكامل بين الاقتصاد الوطني والتغيرات العالمية مع حماية الأسواق المحلية، من خلال تطوير نماذج اقتصادية لدراسة الأسواق الناشئة وتأثير السياسات العالمية على الاقتصاد المحلي، ورؤيته لكيفية استثمار الانفتاح الاقتصادي في تحقيق تنمية متوازنة، تركز على تعزيز القدرة التنافسية مع مراعاة البعد الاجتماعي.
وفي تقديري ومن واقع مشاركتي في جلسات مشروع EEDP، فهو يمثل التطور الطبيعي لمثل هذه الإسهامات التي من شأنها إحداث نقلات نوعية في الوضع، وهو ما يعني ضرورة الاعتبار بشكل جدي ومنفتح ومعمق لمثل هذه التجمعات الفكرية الرائدة، خاصة أن هذا التجمع تجاوز مفهوم المؤتمر العلمي الطبيعي، إلى مشروع بحثي تطبيقي متكامل.
فالمشروع الذي أسسه الدكتور محمود محيي الدين، وذُكر في أهدافه تقديم صورة شاملة لتطور الاقتصاد المصري خلال العقود الماضية، ويعد تجربة تنشيطية تجمع العمل الأكاديمي من مختلف التخصصات الاقتصادية، قد تضمن مناقشات ثرية للغاية لمست طبيعة الأزمة التي يعانيها الاقتصاد المصري من جوانبها المختلفة وطرحت حلولا جديرة بالانتباه خاصة أنها قد راعت البعد التاريخي وتطور الأزمة والتجارب الدولية.
كما تضمن جلسات معمقة لمناقشة الأبحاث المقدمة، أمام لجان علمية متخصصة من أساتذة أجانب ومصريين، وكذلك مداولات لتنقيح الأطروحات والحرص على الخروج بحلول وتوصيات في كل قضية، مع مراعاة البعد التطبيقي.
وفي تقديري فإن المشروع قد طرح نموذجا لتجديد الخطاب الاقتصادي بدلا من فكرة "المكلمة" التي انتشرت سابقا، للدرجة التي نقلته من مجرد مؤتمر علمي طبيعي إلى مشروع بحثي تطبيقي كامل تضافرت فيه جهود مصرية وعالمية، مع تنظيم مثالي للغاية يحرص على إتمام المناقشة وتحكيم الأوراق المقدمة إلى توصيات قابلة للتنفيذ.
ويعمل المشروع على تسهيل إنتاج العديد من المخرجات، بما في ذلك دليل شامل باللغة الإنجليزية عن تطور الاقتصاد المصري على مدى العقود العديدة الماضية، ومجلد باللغة العربية يركز على السياسات العامة اللازمة للتنمية الاقتصادية في مصر، وأيضا سلسلة من أوراق العمل وأوراق السياسات وتقديم ورش عمل مختلفة.
ما لفت انتباهي أيضا، هو حرص المشروع على حضور ومشاركة فعالة لنخبة بحثية عظيمة من الأساتذة المصريين المتميزين الذين يشار إليهم بالبنان سواء في داخل الدولة أو في خارجها، كما أعطى فرصا قيمة لشباب الباحثين، بالشكل الذي يؤكد أن مصر زاخرة بالعقول المستنيرة التي تهوى البحث عن الحلول وتسعى لتقديم رؤى وأفكار ملائمة وقابلة للتنفيذ.. يتبقى فقط الاستجابة والاهتمام.
وبعد حضور أغلب الجلسات على مدار 3 أيام، شعرت إلى أي مدى قد نجح هذا المشروع في تحقيق التوازن بين مستوى العمق والاتساع، بما يجعله عملا علميا ضخما يركز على إشكاليات الاقتصاد بكل زواياها من اقتصاد كلي ومعالجة الديون، إلى السياسة الضريبية، السياسة النقدية وسعر الصرف، الإصلاح الاقتصادي، وأيضا الاقتصاد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية والفقر وغيره الكثير.
وجدتني خلال الجلسات أشعر بوابل من المشاعر.. بالتواضع أمام مقدار المعرفة الموجودة في المناقشات والعقول.. بالسعادة الشديدة لوجودي في حضرة قادة الفكر المتميزين ببعض من الأسى، لأن هذه النخبة لا يتم تفعيلها في صنع السياسات الرشيدة.. وبالأمل في أن يتمخض هذا الجهد الكبير عن شيء ذي قيمة كبيرة، وهو أمل أحسبه في محله في إطار ما يطمح إليه هذا المشروع الفكري، وأرى أنه يجب أن يكون -عند الانتهاء منه - بمثابة المصدر الأساسي لتطوير رؤية مصر الاقتصادية الشاملة.
في النهاية لا يسعني إلا تقديم التقدير والامتنان الشديدين، لكل من أعد وشارك في هذه الجلسات متمنيا لهذا المشروع العلمي العظيم النجاح وحظه من التطبيق.
عاشت مصر طالما عاش العلم يجري في دمائها.
أخبار ذات صلة
الأكثر مشاهدة
هل تتفق مع تصرف طبيبة كفر الدوار بإفشاء أسرار عن المرضى؟
-
أتفق
-
لا أتفق
أكثر الكلمات انتشاراً