الحلقة الثالثة
شهادات وذكريات، يرويها مصطفى بكري لـ«الجمهور»: (الطريق إلى ليمان طرة)
الكاتب الصحفى مصطفي بكرى
حلقات يكتبها الصحفي والنائب مصطفى بكري
هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشت فصولها، انتصاراتها وانكساراتها، حلوها ومرها، اقتربت من صناع هذه الأحداث أحيانًا، وكنت ضحية لعنفوانهم فى أحيان أخرى، معارك عديدة دخلتها، بعضها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي، وقناعاتى.
أروى هذه الشهادات التي ينشرها موقع "الجمهور" بصدق وموضوعية، بعض شهودها أحياء، والبعض رحل إلى الدار الآخرة، لكن التاريخ ووقائعه لا تنسى، ولا يمكن القفز عليها، وتزوير أحداثها.
وفى هذه الحلقات التي تنشرها "الجمهور" يوم "الجمعة" من كل أسبوع يروى الكاتب والبرلماني مصطفى بكرى شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم السادات ومبارك والمشير طنطاوى ومرسى والسيسي.
الطريق إلى ليمان طرة فى صيف 1981
فى صيــف العــام 1981، كانــت مصر على فوهــة بركان، جــراء الأحداث الساخنة، والمتصاعدة، التى راحت تضرب البلاد، من شمالها إلى جنوبها، فى وقــت تصاعدت فيه المعارضة السياســية لنظام الرئيس أنور الســادات بشكل متســارع، وامتدت من التظاهرات الجامعية، إلى تحركات واسعة للأحزاب، والقوى السياسية، والتى راحت تعقد المؤتمرات، والندوات، وتنظم المسيرات، المنددة بسياسات الرئيس السادات، وأركان حكمه.
في هذا الوقت راحت سحب داكنة تتكاثر في سماء العلاقة بين النظام الحاكم والنقابات المهنيــة، وفى المقدمة منهــا نقابتي المحامــين، والصحفيين، وانعكس التوتر عــلى الوضع داخل مجلس الشــعب؛ حيث اشــتد ســاعد المعارضة، عــلى قلة نوابها في المجلــس، وراحت تهاجم الحكومة والنظام بضراوة.
حينــذاك، وجد الســادات نفســه في حالة من الحصار الشعبي الخانق، وشــعر أن الموقف يــكاد يفلت من بين يديه، وهو ما انعكس على ردود فعلــه المتوترة، والمرتبكة، والتي راح يعبر عنهــا في تصريحات غير مســبوقة، وتهديــدات غير متوقعــة، فأصدر قرارًا باعتقــال 1536 من قيادات، ورموز المجتمع، شملت كافة طوائف الشعب المصري، وقواه الحية، ما بين صحفيين، وسياســيين، وحزبيين، ومفكرين، ورجــال دين، وغير ذلك من القــوى الوطنية، التي وحدتها محنة الاعتقالات الواسعة التي شهدتها البلاد.
اغتيال الرئيس السادات في السادس من أكتوبر 1981
كانت مصر في الثاني من ســبتمبر من العام 1981 على موعد قدري مع تلك الأحداث التي راحت تتصاعد بقوة خلال فترة وجيزة، حتى بلغت حدا غير مســبوق، حين قام الضابط خالد الإسلامبولي، ورفاقه من أعضاء الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد باغتيال الرئيس أنور السادات في العرض العســكري يوم الســادس من أكتوبر من العام 1981 ، وذلك بعد أربعة أسابيع فقط مــن قرارات الاعتقال التي اتخذها بحق رموز المجتمع المصري، والتي أثارت حالة من الغضب واسع النطاق فى كافة أنحاء مصر.
لقــد كنــت على رأس من شــملتهم قــرارات التحفظ في هــذا الوقت.. حيــث داهمت قوة مدججة بالســلاح من مباحث أمن الدولة، والأمن العــام بقنا منزلنا الكائن ببلدة "المعنى" ليلة الثاني من ســبتمبر من العــام 1981، "إلا أنها لم تعثر عليّ، حيث كنت موجودا بالقاهرة، وكان معي شقيقاي "محمود وأحمد"، اللذان ما أن علما بما جرى من هجوم أمنى كاسح على منزلنا بالقرية، حتــى ســارعا بالعودة إلى البلدة في الخامس من ســبتمبر، لقد فوجئت بنشر اســمى في الصحف ضمن المطلوب القبض عليهم وكان ترتيبي هو رقم176.
مباحث أمن الدولة تداهم قرية المعنى فى قنا
في مساء نفس اليوم "الجمعة - 5سبتمبر" كان والدى وأشقائي، وعدد من أفراد أسرتي، وبعض الأصدقاء، يجلسون أمام منزل العائلة، مهمومين بما جرى، وفجأة وصلت قوة كبرى من رجال الأمن ومباحث أمن الدولة، مدججين بالأسلحة، وهاجموهم بشكل مباغت، بعد أن جاءوا من منطقة الزراعات المظلمة، القريبة من المنزل، وأصواتهم تخترق ســماء قريتنا الهادئــة.. كان رجال الأمــن يصرخون بأصوات مرعبة وراح الرائد أحمد شــعلان، الضابط بمباحــث أمن الدولة يصــدر توجيهاتــه لعناصر من القوات المشــاركة في الحملــة الأمنية، مطالبا بتفتيش المنزل بطابقيه، "العلوى، والســفلي" والبحث عن الهدف المطلوب.. وكنت أنــا بطبيعة الحال الهدف المطلوب، إلا أنهم لم يعثروا على شيء، فاتجه المقدم محمد يوســف، من قوة مباحث أمن الدولة بقنا، ليأمر القوة المشــاركة بالقبض على شــقيقيّ محمود وأحمد، وكذلــك والدى المســن، وأحد الجيران ممن تواجــدوا بصحبة عائلتي في هــذا الوقت، وهو الصديق حسن أبو المجد.
كان الرائد أحمد شعلان، والذى تم اغتياله في منتصف التسعينيات على أيدى بعض عناصر الإرهــاب في القاهرة، يؤدى واجبه بحرص، غير أن الرائد محمد يوســف، كان على النقيض من ذلك تماما؛ حيث اشــتبك مع شقيقي محمود، الذى رفض اصطحاب الأمن لوالدي المسن، وقال للضابط محمد يوسف "اضربني بالرصاص؛ ولكن لن أسمح لك باعتقال والدى وبهدلته"، كما اشــتبكت والدتي مع الضباط، وراحت تقول لهم "ســيبوا ولادي يا ظلمة، همه عملوا إيه، وايه ذنبهــم؟!"..
كانت أمي، من النوع العنيد والمثابــر، لا تهاب غير الله ســبحانه، وكانت في كل مــرة يأتي فيها رجــال الأمن لاعتقالي، تتصدى لهم، وتواجههم بكل قوة، حتى أنهم باتوا يخافون التعامل معها من شدة بأسها في مواجهتهم.
ورغم كل الســبل التي اســتخدمها الضباط، والحملة الأمنية المكبرة لإرغام شقيقي محمود على التنازل عن رفضه اصطحاب والدى الراحل معهم إلى مقر مباحث أمن الدولة بقنا، إلا أنه رفض الانصياع لمطلبهم، وقال لهم بلغة حاســمة "اقتلوني، ولكن لن أســمح لكم باصطحابه"، وهنا تدخل الرائد أحمد شــعلان، وقال للرائد "محمد يوسف": خلاص سيبه، احنا هناخد محمود وأحمد وحسن أبو المجد ونمشى، وهو ما صدقه أخي محمود، الذى تصور أن الضابط أدرك خطأ الحملة الأمنية في محاولة اصطحاب والدى، إلا أنه سرعان ما تبين أن الأمر لم يكن يعدو أكثر من مناورة رخيصة؛ حيث اصطحبوا شقيقي وصديقنا في إحدى سيارات الشرطة، بينما اصطحبوا والدى فى ســيارة أخرى، وهو ما اكتشــفه شــقيقي محمود، بعد وصوله لمبنى مباحث أمن الدولة، والكائن في قلب مدينة قنا، ما دفعه للغضب من جديد في وجه اللواء جمال المصري، الذى كان مديرا لمباحث أمن الدولة في ذلك الوقت، بســبب إحضار والدنا المســن إلى مقر الجهاز؛ ولكن اللواء جمال المصري طلب من شــقيقي محمود الهــدوء، واعدا إياه بإطلاق سراح والدنا في حال تجاوبه معهم وإبلاغهم عن مكان اختفائي.
أنكر شقيقي محمود، معرفته بمكاني، ومخبأي بالقاهرة، وهنا راح اللواء جمال المصري، يضغط عليه، بالترغيب تارة، وبالترهيب تارة أخرى؛ حيث قال له "احنا مستعدين نديك الفلوس اللي عاوزها علشــان تسافر وتقنع شــقيقك محمد يسلم نفسه".. نطق مدير أمن الدولة اسم "محمد" لأنه الاسم الذى كنت معروفا به في هذا الوقت، قبل أن آخذ اسم والدى "مصطفى بكري" مع بداية عملي بالصحافة في بداية الثمانينيات.. هنا، انفعل اللواء جمال المصري بشــدة، وراح يرفع صوتــه ليــدوى في كل أنحاء مبنى مباحث أمن الدولة، ويقول في مواجهة شــقيقي، إنت فاكر إننا مش هنعرف نجيب أخوك.. داحنا هنجيبه من تحت الأرض، يا ابنى دا الاعتقالات شملت محمد حســنين هيكل، وفؤاد سراج الدين، وعبدالعظيم أبو العطا وغيرهم من كبار الشخصيات، وأخوك لازم يتقبض عليه، يعنى لازم يتقبض عليه".
عندما فشــل اللــواء جمال المــصري، في ترويض شــقيقي، أو تهديده، اضطــر الرائد أحمد شعلان للتدخل، فاصطحب معه شقيقي محمود إلى مكتبه، محاولا إقناعه بمساعدتهم على تسليم نفسى لهم، ومتعهدا بتوفير معاملة كريمة لي لو فعلت ذلك، إلا أن شقيقي رد عليه غاضبا "كيف ســتوفرون له معاملة كريمة، وأنتم تســيئون معاملتنا، وتتعمدون إحضار والدنا المسن إلى هنا، ثــم تعتدون بالضرب على اثنين من أبناء بلدتي، بعد أن جئتم بهما بلا ذنب ارتكباه، ســوى أنهما من قرية أخي، وهما – حسني أحمد همام، وحسن محمود جادالله؟!".
كان كل ما فعلــه الرائد أحمد شــعلان، بمثابة منــاورة جديدة، فقد أدرك أن شــقيقي محمود، عــلى علــم يقيني بمكان اختبــائي، وأنه لن يبوح عن هــذا المكان مهما فعلوا، لــذا راح الضابط يبدل طريقة تعامله معه، سعيا وراء الوصول لمكاني، ويبدو أنه قرر فرض مراقبة مشددة على أشــقائي، وأفراد أسرتي، حتى يتمكن من الوصول إلى مــكاني، فأصدر تعليماته بصرف والدى، وشــقيقيّ، وكل من جاءوا بهم من بلدتي من مبنى مباحث أمن الدولة، وذلك عند نحو الســاعة الواحدة تقريبا من صباح يوم السبت الموافق 6 سبتمبر 1981 بعد احتجازهم بمقر مكتب أمن الدولة لعدة ساعات.
وما بين الثالث من ســبتمبر وحتى الســادس من أكتوبر من العام1981 ظللت مختفيا عن الأنظــار، متنقلا بين مســاكن عدد من الأقــارب والأصدقاء بالقاهرة والجيــزة، ومع ظهر هذا اليوم 6 أكتوبر 1981، كانت مصر على موعد مع الحدث الأكبر، وهو اغتيال الرئيس أنور السادات، في العرض العســكري الذى تم في ذكرى انتصارات السادس من أكتوبر على يد مجموعة إرهابية مسلحة، بقيــادة المــلازم أول خالــد الإســلامبولي، وهنا بدأت قــوات الأمن مرحلة جديــدة فى ملاحقة الهاربــين، والمطلــوب القبــض عليهــم، وكان القبض على شــخصي في هذا الوقت مســألة وقت لا أكثر، فأنا لن أستطيع الهروب كثيرا، والأمن لن يكف البحث عنى.
كان كل ما يشــغلني في هــذا الوقت هو حزن والدتي، فأنا أعــرف حجم الألم الذى تعانيه في ظــل تعرضنا لمثل هذه المشــاكل، فما بالك، وهى ترى رجال الأمــن يلاحقونني في كل وقت، خاصــة أن رجال الأمن كثفوا من ترددهم على قريتنا، وحصارها من كل اتجاه، والتعدي على بعــض أبناء البلدة، ومضايقتهم، وتفتيشــهم بطريقة مســتفزة، وإغلاق المقاهـي عنوة، ووضع مخبرين عند مدخل الكوبرى المؤدى إلى القرية للتضييق على قاطنيها، ولعل ما حدث ليلة الثاني عشر والثالث عشر من أكتوبر من العام،1981 كان مثيرا، وعجيبا في الآن ذاته.
القبض على محمود بكرى
في هذا الوقت كان شــقيقي محمود، يســتمع إلى الإذاعات الموجهة إلى مصر في تلــك الفترة، وخاصة إذاعة "مــصر العروبــة" التي كانت تبث إرســالها مــن العاصمة العراقيــة "بغــداد" وتتابع ما يجرى في مصر أولا بأول، وخاصة منذ مصرع الســادات في العرض العسكري، وفى تلك الليلة أذاعت حديثا مع الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة خلال حرب أكتوبر،1973؛ حيــث توقع قرب ســقوط نظام الحكم، ودعــا إلى الثورة ضد من وصفهــم ببقايا النظام، وعند الســاعة الواحدة من صباح هذا اليوم "13 أكتوبر" توفيت جارة لنا في نفس شارع منزلنا بالقريــة، تدعــى "باتعة" أثناء تعثرهــا في الولادة، فخرج شــقيقي محمود ليقف مــع أهلها وفقا لعاداتنا وتقاليدنا، وجاء تجمع رجال القرية عند بداية الشارع المتقاطع مع الشارع الكائن فيه منزلنا، وهو ما يسمح بمشاهدة ما يحدث أمام وعند المنزل من مسافة تتجاوز المائة وخمسين مترا.
كانت الفترة التى غادر فيها شقيقي محمود المنزل، وحتى بلوغه المكان، ووقوفه على رأس الشــارع، لا تتجــاوز العشر دقائق، وبينــما كانت صرخات أهل المتوفاة تــدوى فى هذا الوقت المتأخر من الليل، حتى فوجئ شــقيقى وهو يدير وجهه صوب المنزل بقوة مدججة بالســلاح تقتحم المنزل باحثة عنه، للقبض عليه، بتهمة ممارســة نشــاط ســياسى معاد لنظام الحكم.. لقد جاءوا هذه المرة بشراســة غير مسبوقة؛ حيث حطموا الأبواب، والأثاث والتليفزيون، وغير ذلك من حاجات المنزل، وتعرضوا لباقى أشقائي، وأثاروا فزع شقيقتى اللتين كـانتا صغريتين فى الســن، وحولــوا المنطقــة بكاملها إلى ثكنة عســكرية، راحوا يفتشــون بيوت الأقارب، ويتجولون فى شوارع البلدة، خاصة بعد لجوء شقيقى محمود إلى بيوت بعض الأقارب، هربا من ملاحقتهم، بعد أن عرف أنه المقصود من الهجوم على منزلنا.
لقــد أدرك شــقيقي أن الحملة البربرية التي اســتهدفت منزلنا، وروعت أهــالي بلدتنا، لن تتوقف عند هذا الحد، بل وضع في حسبانه أن الجهات الأمنية، وبعد أن فشلت في الوصول إليّ، قــد تندفــع باتجاه توريطي في أحــداث العنف التي كانت تشــهدها مصر في فترة ما بعد اغتيال السادات، لذا فكر فى التصرف بشكل عاجل لاحتواء أي تطورات قد تحدث، ولا يحمد عقباها.
كان الهــم الأكبر الذى يشــغلنا جميعا هو تأثير الأحداث على والدتنــا، فهي الوحيدة التي تعيــش فترة من العــذاب الكامل، وتمتنــع عن تناول طعامهــا، كلما حلت بنا أزمة أو مشــكلة، ومن هنا انصب تفكير شــقيقي محمود على أن يغادر من قنا إلى القاهرة، لتحذيري من خطورة ما حدث، وتوقعاته لما قد يحدث مســتقبلا، خاصة أن وسائل الاتصال كانت محدودة للغاية قبل عــصر الموبايــل، وكذلك ترتيــب زيارة لوالدتي للقاهــرة، بحيث تطمئن عليّ، بعــد أن توقع أنه ســوف يتم القبض علي في أي وقت، ولذا رتب رحلة ســفر لها، ومعها شقيقي عبدالحميد، ورسم لهما خطة الوصول إلى محطة ســكك حديد الجيزة، وكيفية التحرك، ومن ســيكون في انتظارهما بالجيزة، وغير ذلك من الأمور لتأمين وصولهما، دون أن يتتبعهما أحد؛ ورغــم الحرص الكامــل على ترتيب الأمور؛ لكــن ما جرى كان غريبــا، وعجيبا، ومثيرا، لقد اســتطاع شقيقي محمود الوصول إلى مســكني في المعادي بعد رحلة من التخفي، سلكها من لحظــة خروجــه من بلدتنــا، وحتى وصوله محطة ســكك حديد قنا عصر يــوم الرابع عشر من أكتوبر من العام 1981 ثم وصوله إلى محطة قطار الجيزة عند الســاعة السادســة من صباح يوم15 أكتوبر1981.
مــضى نهار الخامس عشر من أكتوبر، وفى صباح اليوم التــالي 16 أكتوبر، وصلت والدتي قادمــة مــن البلدة، بصحبة شــقيقي عبدالحميد، وابن عمى أحمد، الذى كان في اســتقبالهما على محطة القطار، وطيلة الســاعات التي تلت وصولها لم تتوقــف عن البكاء، وكأنها كانت تدرك، بغريزة الأم، ما يخبئه لها القدر بعد ساعات محدودة من وصولها.
قوات الأمن تحاصر شارع أحمد زكى في المعادي
عند الساعة الرابعة عصرا، كنا نجلس في غرفة الاستقبال بالشقة التي نقيم بها بشارع أحمد زكى بالمعادي، ومعنا ابن عمنا ســعيد.. وبينما نحن نتجاذب أطراف الحديث، دق جرس الباب، فتقــدم أحد المتواجدين معنا لفتحه، وما هي إلا لحظات، حتى فوجئنا بالمسدســات، وفوهات المدافع الرشاشة، مصوبة إلى وجوهنا.. بينما راح أحد الضباط من قادة القوة يسألنا "مين فيكم محمد؟.. ومين فيكم محمود؟".. وقبل أن ننطق بكلمة، أشار مخبر المباحث، الصول سيد من قوة أمن الدولة في قنا والذى يعرفنا جيدا وســبق أن حقــق معي وأنا صغير، ليقول للضابط "هو ده محمد.. وهو ده محمود".
بطريقة خاطفة، فوجئنا بالضابط، قائد المجموعة الأمنية، التي ألقت القبض علينا، يضع الكلابشات الحديدية في أيدينا، ومعنا ابن عمنا.. في هذه اللحظات تعلقت عيوننا بوالدتنا ونحن نغادر الشــقة، كانت عيناها الباكيتين تذرفان الدموع علينا، حيث لم تســتطع النطق ولو بكلمة واحدة، وكان مشــهدها في تلك اللحظات هو من أصعب ما وقعت عليه عيوننا، وظل مرافقا لنا طيلة فترة السجن.
فور خروجنا من باب الشــقة، هابطين من الطابق الخامس بالعمارة إلى الشــارع، شــهدنا عجــب العجاب؛ حيث تم احتلال العــمارة بكافة طوابقها، وحتى الســطوح بقوات مدججة بالأســلحة الآلية، وامتدت الإجراءات الأمنية إلى الشــوارع المحيطة.. انتشر الجنود والضباط الذين كانوا يحملون الرشاشات في كل مكان.. قيادات كبرى من رجال الأمن يمسكون بأجهزة اللاســلكي، ويصدرون التعليمات، سيارات للشرطة احتلت الشوارع التي تقع بمحيط المنطقة برمتها.. الآلاف من المواطنين احتشدوا على مرمى البصر بشارع أحمد زكى، لقد تصورنا للوهلة الأولى أننا لســنا المقصودين، لولا أن الكلابشــات كانت بأيدينــا؛ لأن ما حدث، وما جرى، من حشــود أمنية، وأسلحة، يصعب اســتخدامها مع مواطنين مســالمين، لا يملكون سوى أقلامهم، وحناجرهم، وكلمتهم الحرة.
في هذا الوقت رحنا نهتف أنا وشــقيقي محمود "تحيا مــصر.. كلنا فداؤك يا مصر".. كانت الحشــود تتابعنا في ذهول ونحن نتقدم بثبات نحو سيارة الشرطة التي راحت تنطلق بنا إلى قسم شرطة المعادي أولا، بعد أن فكوا أغلال ابن عمنا ســعيد، وتركوه؛ لأنه لم يكن مطلوبا القبض عليه.
ومن قسم شرطة المعادي، انطلقت بنا سيارة الشرطة إلى مبنى مباحث أمن الدولة بلاظوغلي؛ حيــث تم ابلاغ الجهات المختصــة أننا أصبحنا في قبضة الأمن، وبعد تحقيقات سريعة انطلقت بنا سيارة الشرطة، تصحبنا حراسة مشددة، عبر طريق الأوتوستراد، إلى منطقة السجون بطرة، عند نحو السادســة من مســاء هذا اليوم السادس عشر من أكتوبر، وبعد عشرة أيام فقط من اغتيال الرئيس أنور الســادات، توقفت بنا الســيارة عند منطقة السجون بطرة؛ حيث هبط قائـد المجموعــة الأمنية المرافــق لنا، ودخل إلى الســجن، بينما كنــا ننتظر بقلق خــارج بوابة الســجن، خوفا من أن تسعى سلطات الســجن للتفرقة بيننا في الحبس، خاصة أن قرار اعتقالي صدر في الثاني من ســبتمبر، ضمن الـ 1536 شــخصية التي تم التحفظ عليها، أما شقيقي محمود، فقد صدر قرار اعتقاله في الثالث عشر من أكتوبر 1981 أي بعد ســبعة أيام من مقتل الرئيس أنور السادات.
كنا ننتظر بفارغ الصبر، لنعرف كيف ســيتم توزيعنا، لم نكن نعبأ، لا بسجن، ولا سجان، كان همنــا الأكبر ألا يفرقوا بيننا، حتى نســتطيع الاطمئنان على بعضنــا البعض.. وعندما قال لي الضابــط إن مكانك هو ســجن الملحق مع هيــكل وسراج الدين رفضت ذلــك وقلت: لن أقبل إلا أن يكون معي أخي، وبعد الاتصالات التي أجراها تم الاتفاق على إيداعنا بســجن "ليمان طرة".. وهنا راحت ســيارة الترحيلات تشــق طريقها باتجاه ليمان طرة، بينما كانت آخر أشعة الشــمس، تتسلل، منسحبة من الأفق الفســيح، لتحل محلها سحب داكنة، تخيم على هذا المكان الموحش فى منطقة سجون طرة.
"التجريدة " في مدخل ليمان سجن طرة
وحين هبطنا من ســيارة الترحيلات أمام بوابة ســجن ليمان طرة، تقدم نحونا "ســيد" مخبر مباحــث أمن الدولــة بقنا، وبعد أن فــرغ من مهمته بتســليمنا لإدارة الليمان مــع ضابط القوة المرافقة، قال لنا "ســوف أبلغ الأسرة بخبر اعتقالكما، ومكان ســجنكما".. نظرنا إليه، دون أن نرد عليه بكلمة واحدة.
حـين فتــح الليــمان بوابته الضخمــة، وبأصواتهــا المزعجة، تــم دفعنا إلى داخــل الليمان؛ حيث ســجلوا أســماءنا في الســجلات المخصصة للنزلاء، ثم طلبوا إيداع ما لدينا من أموال في "أمانات الســجن".. ومــا هي إلا لحظات، حتــى فوجئنا بالعميد "محمد صفــوت جمال الدين" مأمور الليمان، يوجه إلينا ألفاظا نابية، ويســبنا بأقذع الألفاظ، وهو يقول "عاملين فيها زعما ياولاد الـ.. .. .. ."، "هو انتوا فاكرين أبوكم وزير علشــان تتكلموا في السياسة"، "طيب احنا هنعلمكم الأدب علشان تبطلوا مناكفة تاني".. ثم راح، وبإشارة منه، يطلق علينا جنوده، الذين انقضــوا علينا كالوحوش الكاسرة، ليحلقوا رأسينا بطريقة غريبة؛ حيــث مرروا ماكينات الحلاقة الزيرو، لتفتح مجرى فيهما، بالطول والعرض، ثم يتركوا باقى الرأس دون حلاقة، فى محاولة لكسر معنوياتنا منذ اللحظات الأولى لإيداعنا الليمان.
الراحل محمود بكرى
بعد التجريدة "المقيتة" لحلق رأسيــنا بهذه الطريقة، بــدأت المرحلة الثانية في التعامل معنا، حيث فوجئنا بصفــين طويلين من الجنود ذوى الأحجام الضخمة يتراصون في مواجهة بعضهما البعض، وبينهما ممر بســيط، بالكاد نســتطيع تجاوزه.. كان الجنود يحملون في أيديهم عــصى كهربائية ســوداء من الجلد.. كانت النيــة منعقدة لإخضاعنا لحفلــة تعذيب مع بداية أول يــوم لنا داخل ســجن ليــمان طرة.
وصدقــت توقعاتنا ففي لمح البــصر، ودون مقدمات، أصــدر مأمور الليــمان تعليماته للجنود بالانقضاض علينا، فراحت ضربات العصى الســوداء المكهربة تنهمر علينا، من اليمين، ومن الشمال، ومن الأمام، ومن الخلف.. ورحنا نقاوم بكل ما نملــك مــن قوة، بينما الطابــور الطويل، للجنــود لا يريد أن ينتهى.. تحملنــا ضربات العصى المكهربــة بكل إباء، فنظر الينــا مأمور الليمان وهو يكاد ينفجر من الغيظ؛ حيث طلب من مخبر بالســجن، يدعى "عطية" وأحد الجنود أن يواصلا ضربنا بالعصى، حتى باب عنبر "2" الذى أودعونا فيه؛ حيث كانت أصوات أعضاء الجماعة الإسلامية من المعتقلين تتعالى بتلاوة آيات من القرآن الكريم، بينما تم إيداع أخي محمود مع العشرات من المســاجين السياسـيين من أصحاب التوجهات الناصرية واليســارية، أما أنا فقد تــم إيداعي في زنزانة جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بزعامة الشيخ يوسف البدرى، الذى كان متلهفا يريد أن يعرف حقيقــة الأوضاع في الخارج.
وفى اليوم التالي طلبــت ضرورة نقلى من هذه الزنزانة إلى حيث الزنزانة المســجون فيها أخي محمود.. بعد التفريق بيننا، وقد اســتطعت بالفعل اجبارهم على سجنى في زنزانة واحدة مع شقيقي محمود.. رحنا ننخرط بسرعة مع بقية المعتقلين السياسيين، قضى شــقيقي محمود نحو الشــهر ونصف الشــهر، بينما قضيــت أنا قرابة الشــهرين ونصف الشهر، قبل أن يطلق سراحنا.
كانــت المعاملة داخل الزنازين غير آدمية، أوامر الســجن تمنعنا من مغادرة الزنزانة أكثر مــن نصف الســاعة خلال الـ 24 ســاعة، فقــط للتريض، ودخــول الحمامات، منعــوا عنا الطعام الخارجي، والصحف، حتى الراديو الصغير الذى كنا نحاول معرفة أخبار الدنيا من خلاله، تم سحبه في واحدة من الجولات التفتيشية المفاجئة، وهو ما دفع العشرات من المعتقلين للإضراب عن الطعام احتجاجا على سوء المعاملة.
وكان من النوادر في تلك الفترة، حدوث خلاف شديد بيني وبين شقيقي محمود، حول من الذى سيدخل الاضراب عن الطعام أولا، كان كل منا يريد أن يقوم هو بالإضراب بدلا من شــقيقه، ولكنني صممت على الإضراب واستبعاد أخي محمود؛ حيث قضيت أربعة عشر يوما في سجن انفرادي بعنبر التأديب، مع آخرين لا نتناول سوى الماء فقــط قبل أن نفك الاضراب عن الطعام، بعد رضوخ إدارة الســجن لبعض مطالبنا، ومنها حقنا في الطعام من الخارج، وقراءة الصحف.
كان يجلــس إلى جــواري في زنزانــة التأديــب عماد بــدر الدين أبــو غازي - الــذى أصبح وزيرا للثقافة بعد أحداث 25 يناير - وزميل آخر هو مصطفى الخولي، كانت الزنزانة مظلمة إلا من ضوء بســيط، ولا يسمح لنا بالخروج إلا وقت قصير لقضاء الحاجة.
في اليــوم الأول للإضراب عن الطعام شــعرنا بحالة شــديدة من الجــوع، تحملنا بكل صبر وإناة، مضت الســاعات بطيئة، حاولت النوم في مســاء هذا اليوم إلا أنني لم استطع إلا في وقت متأخر.
وفى صبــاح اليوم التــالي خرجنا لدقائق معدودة، لم يكن أمامنا ســوى الماء، وكان ســجن التأديب معزولا تماما، وتم إعداده لتكدير المشاغبين من المساجين.
بدأنــا نســتعيد الذكريات والحكايات ونحــن قابعون في الزنزانة، وعندما حل مســاء ذلك اليوم راح عماد بدر الدين أبو غازي، يحكى لنا عن طعم الدجاج المحشــو، شــعرت بالجوع كما لم أشعر من قبل، ورويدا رويدا أسلمت رأسي للنوم.. في اليوم الثالث بدأت أشعر أنني في عالم آخر، وأن جسدي يكاد يكون محلقا في الأجواء، ومــع كل يوم يمضى يأتي إلينا ضابط كبير محاولا إثناءنا عن الاســتمرار فى الإضراب إلا أننا كنا مصرين على الاستمرار.
لقاء لم يتم الرئيس حسنى مبارك
وفى اليــوم الرابع عشر وصل إلى الســجن ضابــط كبير من رئاســة الجمهورية، وكان معه قرار بالإفراج عنى لاصطحابي إلى لقاء رئيس الجمهورية حسنى مبارك، الذى ضم 31 شخصا من القيادات السياسية والحزبية المسجونة.. بينما قد تم الإفراج عن شقيقي محمود في وقت سابق.
لم يصدق مأمور الســجن أن هذا الشــاب الذى كان عرضة للضرب والتنكيل والتعذيب سيقابل رئيس الجمهورية، سعى بكل ما يملك من أجل عرقلة ذلك، وعندما رأني الضابط الموفد من رئاســة الجمهورية في حالة إعياء شــديد بعد إنهــاء الإضراب اتصل بقيادته وأبلغهم صعوبة اصطحابي بهذه الطريقة.
مضى الضابط وبقيت في السجن على وعد بالخروج في الدفعة القادمة، لم تتحسن الأحوال كثيرًا فبدأت مع آخرين إضرابًا عن الطعام لمدة ثلاثة أيام، حتى تمت الاستجابة لكافة المطالب، ومنها الزيارات وفتح الزنازين والصحف والأغذية.
وفى يــوم 27 نوفمــبر 1981 صــدر قــرار بالإفراج عــن الدفعــة الثانية، وتــم الإفراج عنى في الدفعة التي رافقني فيها الشيخ عمر التلمساني مرشد الإخوان، وحمدين صباحى وآخرين.
عدت إلى منزلي بعد ما نشرت الصحف صورتي وأنا خارج من السجن، مضيت إلى بلدتي حيــث كان في انتظاري مهرجان كبير، أما أمي فقد كانــت الدموع تنهمر من عينيها، وعندما نظرت إليها خلســة، مســحت دموعها بطرف طرحتها وقالت بصــوت هادئ: دي دموع الفــرح يا محمد، بس كفاية يا ولدى ويا ريت تكون آخر مرة، ابتســمت كما هي العادة، لكنني كنت على يقين أنني لن أستطيع أن ألبى طلبها..
إقرأ أيضا:
شهادات وذكريات، حلقات أسبوعية لـ «مصطفى بكرى» على موقع الجمهور
شهادات وذكريات، يرويها مصطفى بكري لـ«الجمهور»: (قطار الدرجة الثالثة)
شهادات وذكريات، يرويها مصطفى بكري لـ«الجمهور»: (فى السجن للمرة الأولى)
تابع موقع الجمهور عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع الجمهور عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا
الجمهور، موقع إخباري شامل يهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري بما يليق بقواعد وقيم الأسرة المصرية ، لذلك نقدم لكم مجموعة كبيرة من الأخبار المتنوعة داخل الأقسام التالية، الأخبار، الاقتصاد، حوادث وقضايا، تقارير وحوارات، فن، أخبار الرياضة، شئون دولية، منوعات، علوم وتكنولوجيا، خدمات مثل سعر الدولار، سعر الذهب، سعر الفضة، سعر اليورو، سعر العملات الأجنبية، سعر العملات المحلية.
أخبار ذات صلة
الأكثر مشاهدة
هل تتوقع إنهاء الحرب على غزة ولبنان بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟
-
نعم
-
لا
أكثر الكلمات انتشاراً