الجمعة، 08 نوفمبر 2024

09:27 م

رئيس مجلس الإدارة

محمد رزق

رئيس التحرير

أمين صالح

رئيس مجلس الإدارة

محمد رزق

رئيس التحرير

أمين صالح

الحلقة الثانية

شهادات وذكريات، يرويها مصطفى بكري لـ«الجمهور»: (فى السجن للمرة الأولى)

مصطفى بكري

مصطفى بكري

بقلم مصطفى بكري

A A

هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشت فصولها، انتصاراتها وانكساراتها، حلوها ومرها، اقتربت من صناع هذه الأحداث أحيانًا، وكنت ضحية لعنفوانهم فى أحيان أخرى، معارك عديدة دخلتها، بعضها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي، وقناعاتى.

أروى هذه الشهادات التي ينشرها موقع "الجمهور" بصدق وموضوعية، بعض شهودها أحياء، والبعض رحل إلى الدار الآخرة، لكن التاريخ ووقائعه لا تنسى، ولا يمكن القفز عليها، وتزوير أحداثها.

وفى هذه الحلقات التي تنشرها "الجمهور" يوم "الجمعة" من كل أسبوع يروى الكاتب والبرلماني مصطفى بكرى شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم السادات ومبارك والمشير طنطاوى ومرسى والسيسي.

السجن للمرة الأولى

في 6 أبريل 1976، أعلن عن تأسيس منبر «اليسار» بقيادة خالد محي الدين، وتم انتخاب سكرتارية عامة، وهي أول هيئة تأسيسية، مكونة من 39 عضوًا في 10 أبريل، كنت أصغر عضو جرى انتخابه في هذه الهيئة التي كانت بمثابة أعلى هيئة تنظيمية داخل منبر اليسار، والذي كان واحدًا من المنابر الثلاثة التي أصدر الرئيس السادات قرارًا بإنشائها في إطار الاتحاد الاشتراكي العربي وهي منابر (اليمين – الوسط – اليسار).
ربطتني علاقة قوية بالأستاذ خالد محي الدين، والدكتور رفعت السعيد ، والدكتور يحيى الجمل،  والسيد كمال الدين رفعت، والأستاذ محمد خليل وآخرين من قادة حزب التجمع.
توليت منصب أمين منبر اليسار في محافظة قنا وعضوًا بالأمانة العامة منذ الصغر، وكنت مازلت طالبًا في جامعة أسيوط – فرع قنا.
 

                         مصطفى بكرى وعبد الرحمن الأبنودى ويوسف القعيد 
 

بدأت في تأسيس فروع للمنبر بكافة المراكز والعديد من القرى والمناطق الهامة، كنت أجوب طول المحافظة وعرضها وأنا لازلت طالبًا..
 

مظاهرات 18، 19 يناير احتجاجًا على رفع أسعار  السلع 

وبعد نحو أقل من عام على تأسيس المنابر السياسية، شهدت مصر واحدة من أكبر المظاهرات في تاريخها، والتي عرفت باسم مظاهرات 18، 19 يناير، والتي جاءت احتجاجًا على رفع أسعار العديد من السلع الأساسية للمواطنين، يومها رحت أتزعم المظاهرات الغاضبة التي انطلقت في قنا احتجاجًا على الغلاء، حملتني الجماهير الغاضبة على الأكتاف، هتفت (يشربوا ويسكي وياكلوا فراخ واحنا الفول دوخنا وداخ) (يا جيهان الشعب جعان) وغيرها من الشعارات المناوئة للنظام الحاكم، بقينا في المظاهرات حتى وقت متأخر من عصر ذلك اليوم، وعندما وصلنا إلى مبنى المحافظة خطبت في الجماهير وطلبت منهم عدم التخريب أو الاحتكاك برجال الشرطة، وبعد قليل انصرفنا، كل إلى بيته، إلا أن البعض أحرق إحدى سيارات الشرطة.
 

كانت قوات الأمن فرضت سطوتها في اليوم التالي داخل الشوارع والميادين الرئيسية بمدينة قنا، بينما كانت أنباء انتشار المظاهرات في البلاد كلها حديث الناس في البيوت والمقاهي.

                     مصطفى بكرى مع خالد محيى الدين وضياء رشوان ومحمد خليل 
 

حصار قرية المعني فجرا للقبض على الطالب محمد مصطفى بكري

في فجر يوم الحادي والعشرين من يناير 1977 قامت قوة أمنية كبرى برئاسة المقدم فؤاد فرغلي، بالهجوم على بلدتنا ومحاصرة العديد من شوارعها بواسطة رجال الأمن المركزي، كان المشهد مخيفًا لم يصدق الناس أن كل هذه القوات جاءت للقبض على الطالب (محمد مصطفى بكري)، الذي لا حول له ولا قوة، في هذا اليوم توجه المقدم فؤاد فرغلي إلى منزلنا، لم أكن موجودًا داخل المنزل في هذا اليوم، وعرف أنني موجود بمنزل جدي الذي يتواجد في شارع مجاور، توجهت قوة خاصة واقتحمت منزل جدي، وفجأة وجدت نفسي داخل إحدى سيارات الشرطة، ولم أستطع في هذا الوقت الحصول على أي ملابس، فقد كانت الكلمة الشهيرة (خمس دقايق وحيرجع) هي التي ترددت فجر هذا اليوم، وأشهد أن المقدم فرغلي، تحمل الكثير من الاستفزازات خلال عملية القبض عليّ.
 

بعد نحو نصف ساعة وجدت نفسي في قسم شرطة مدينة قنا، توجه بي الضباط والجنود إلى حجز القسم، ثم أغلقوا الباب من الخارج، كان الحجز مكدسًا عن آخره، إنهم الزملاء الذين كانوا معي ضمن المتظاهرين، وكان من أبرزهم الشاعر القنائي عبد الرحيم حمزة، وزميل الدراسة بكري أبو بكر عمر، وسيد سعد شرقاوي وآخرون.
 

                                   مصطفى بكرى مع أهالى حلوان 
 

قضينا الساعات بطولها وعرضها، وعند الصباح جرى نقلنا في سيارة من سيارات الأمن المركزي إلى مقر محكمة قنا الكلية؛ حيث تم عرضنا على النيابة، والتي أصدرت قرارًا بحبسنا حبسًا مطلقًا على ذمة قضية التظاهر والتخريب.كان عددنا قد بلغ في هذا الوقت 23 فردًا.. انطلقت سيارة الأمن المركزي بنا إلى سجن قنا العمومي المعروف باسم (السجن الغربي) كانت إجراءات الأمن مشددة، والشوارع تكاد تكون مغلقة.

استقبلنا مأمور السجن، وفي دقائق معدودة، تم إنهاء الإجراءات الإدارية، وتصويرنا وكل ممسك بنمرته، وعندها هجم علينا الحلاق، كان قد انتهى من الإجهاز على 23 رأسًا في دقائق معدودة.
 

                           مصطفى بكرى والراحل محمود بكرى مع أهالي قنا 
 

تجربة الحبس مع كبار تجار المخدرات 

فجأة وجدت نفسي وحيدًا في زنزانة تضم عددًا كبيرًا من المتهمين بارتكاب جرائم قتل ومخدرات، لقد تم توزيعنا على عدد من الزنازين، ولم أعرف ما هي الحكمة في عدم جمعنا في زنزانة أو اثنتين سويًا، كان الشعور السائد لدينا جميعًا في هذا الوقت، أننا قد لا نخرج من السجن في وقت قريب، فالأحداث كانت كبيرة، والنظام في مأزق، وتراجع السادات عن رفع الأسعار لم يكن يعني التسامح مع المتظاهرين.

كان الجو باردًا في هذا اليوم، وكانت الساعة قد بلغت السابعة مساء. في اليوم الأول لم يكن هناك (برش) أنام عليه، لقد جاء أخي محمود، ببعض ملابسي في حقيبة وسلمها لي في مقر المحكمة، ألقيت بجسدي المنهك من التعب على الأرض.

رجل أسمر كان يجلس في أحد الأركان، سألني: إيه جريمتك يا بلدينا، قلت له: مظاهرات، عملنا مظاهرات ضد رفع الأسعار، قال: قتلتوا كام واحد؟ قلت: إحنا عملنا مظاهرات سلمية ومفيش حد مات؛ ولكن هناك بعض السيارات تم حرقها من بعض المشاغبين والمخربين.

بعد قليل فتحت أبواب الزنزانة، تقدم أحد عساكر السجن، كان يحمل بين يديه (برشًا وبطانية وقروانة) نظر إلى نظرة لا تخلو من معنى وقال بصوت أجش: قوم فزّ خد حاجتك.

 نظرت إليه باستياء وقلت له: طيب بالراحة شوية،  تقدمت نحوه وتسلمت البرش، نظرت إلى البطانية شعرت أنها قطعة من الخيش، لم يكن أمامي خيار آخر، مضيت إلى أحد الأركان الجانبية، إلى جوار الرجل الذي تحدث معي منذ قليل، قلت له وأنت اسمك إيه يا أخ؟ نظر إلي نظرة استهانة وسخرية وقال: اتخمد دلوقتي نام وبكرة نتكلم!! عرفت بعد ذلك أن اسمه «الشاطر علي حارث» من قرية السمطا بمركز دشنا، وهو معتقل على ذمة العديد من قضايا القتل.
 

طيف أمي يهيمن على تفكيري بالزنزانة


ألقيت بجسدي على البرش، كان طيف أمي يهيمن على تفكيري، سألت نفسي: يا ترى عاملة إيه يا أمي؟ ربنا يكون في عونك، حاولت النوم، وجهها لا يفارقني، أعرف جيدًا مدى حبها لي، فقد كنت ابنها الأكبر، وقد رأيت حسرتها يوم سافرت إلى القاهرة لحضور دورة منظمة الشباب، أتذكر عندما عدت وألقيت بجسدي في حضنها، انهمرت الدموع من عينيها، وهي تقول لي: اوعى تسيبني تاني يا ولدي، أنا مقدرش على فراقك يا محمد..                                         محمود بكرى ومصطفى بكرى 



كانت أمي سيدة بسيطة، طيبة القلب، ليس لها في الدنيا سوى زوجها وأولادها، كانت تفخر دومًا أنها واحدة من القلائل في بلدتنا التي تعرف القراءة والكتابة، ولِمَ لا وهي التي درست في المدرسة الابتدائية حتى الخامسة، ولولا تدخل جدي وإصراره على إنهاء تعليمها عند هذا الحد لاستمرت حتى الثانوية كما كانت تقول.


كانت أمي تفتش في مكتبتي الصغيرة دومًا، وأكثر من مرة سألتني هو مين (لينين) أبو نص دقن ده، وليه بتقراه يا ولدي؛ لكنها كانت تحب جمال عبد الناصر، وتجلس دومًا إلى جوار والدي للاستماع إلى خطبه.

بعد قليل وجدت نفسي غارقًا في النوم، فقد أنهكني التعب، ولم أفق إلا على صوت الزنزانة وهي تفتح بابها في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، فول وطحينة ورغيف من الخبز، كانت تلك هي وجبة الإفطار، ليس لك أن تسأل أو ترفض، فقط عليك أن تحصل على إفطارك في صمت، وبعد أن تناولنا وجبة الإفطار، خرجت من الزنزانة أبحث عن رفاق المظاهرة، التقينا سويًا، وبدأنا نتمشى داخل عنبر السجن ذهابًا وإيابًا، كان السؤال الذي يتردد بيننا: ماذا يحدث في الخارج؟ وماذا عن قضيتنا؟!

قبيل ظهر ذلك اليوم، جاءت والدتي برفقة أخي محمود، ترتدي الطرحة وملابسها السوداء التي لم تخلعها طيلة حياتها، لقد ذهبا سويًا إلى بوابة السجن، إلا أن عسكري البوابة قال لهما: لازم تصريح من النيابة وامشوا دلوقتي.. بعد قليل أشار لهما أحد الواقفين وقال: ممكن تشوفي ابنك من خلف السجن، اصطحبهما إلى شارع جانبي يطل على شباك العنبر الذي تتواجد به الزنازين، نادى أخي محمود، طالبًا من أحد المساجين أن ينادي على اسمي، وبالفعل أسرعت الخطى إلى الشباك أنظر من أعلى إلى أسفل ففوجئت بأخي ووالدتي قد جاءا للاطمئنان علي.
 

                           محمود بكرى وشقيقه مصطفى ووالدته 

قلت بصوت عال: ازيك ياما، ازيك يا محمود، أنا كويس، متزعليش ياما، خلي بالك من أبويا وإخواتي.
لم تستطع أن تبوح بكلمة واحدة، غالبتها الدموع وهي تشير إليّ بيدها، بينما راحت اليد الأخرى تمسك بقطعة من الطرحة التي ترتديها لتمسح بها دموعها الساخنة.
 

كان أخي محمود أكثر تماسكًا، حاول أن يرسم الابتسامة على وجهه؛ لكنه سرعان ما فقد تماسكه وبدأت أشعر أن دموعه هو الآخر بدأت تنهمر، أشارت إلي أمي بلفة في يدها وسمعتها تقول: جيبالك أكل يا ولدي، أوديه فين؟!
قلت لها: كل حاجة متوفرة ياما، خليه بعدين..
 

تألمت كثيرًا لدموع أمي التي لم تتوقف، طلبت من أخي محمود، أن يأخذها ويعود بها إلى المنزل حتى تتوقف عن البكاء، كانت لا تريد أن تفارق المكان؛ لكن أخي عمل بالنصيحة، ومضيا سويًا عائدين.

 

رئيس الوزراء ممدوح سالم اتهمني بقيادة المظاهرات في قنا

في صباح اليوم التالي جاءت أمي وأخي محمود خلف السجن، نادى علي أحد المساجين، مضيت سريعًا إلى شباك العنبر، كان ممدوح سالم، رئيس الوزراء، ألقى بيانًا تحت قبة البرلمان تحدث فيه عن الأحداث وذكرني بالاسم وقال: (قام محمد مصطفى بكري بقيادة المظاهرات في محافظة قنا، وحرض الجماهير على التخريب وأمرت النيابة بحبسه حبسًا مطلقًا).
 

 أذيع البيان بالتليفزيون، وعرفت أن أمي ما إن سمعت البيان حتى انهارت، وجاءت نساء البلدة إليها لتهدئتها وأجمعن أن مصيري سيكون المؤبد أو الإعدام.
سمعت أنين أمي وصرخاتها المكتومة، رأيت دموعها تنساب على وجنتيها بدت كأنها تودعني الوداع الأخير، وسمعتها تقول بصوت مبحوح: صُح حيعدموك يا ولدي؟! تألمت كثيرًا لحزنها ودموعها، وحاولت أن أهدئ من روعها ونفيت ذلك، بعد أيام استطاع شقيقي محمود، أن يحصل على موافقة الجهات المعنية لتنظيم مباراة كرة قدم بين فريق المدرسة الثانوية وفريق السجن، وجاء معهم التقيته في فناء السجن كان لقاء ساخنًا، سألته عن أمي، فأبلغني أنها مريضة بسبب سجني وكانت تلك من أصعب اللحظات في حياتي.

مضت الأيام ثقيلة، وبعد مضي نحو ثلاثة أشهر، نظرت محكمة قنا قضية المتظاهرين؛ حيث جاء للمرافعة عني وعن الزملاء كل من الأساتذة أحمد نبيل الهلالي، وحلمي الشريف،  وعبدالله الزغبي، جاءوا متطوعين للدفاع عنا.

وبعد جلسة استمرت لعدة ساعات قضت المحكمة الحكم ببراءتنا جميعًا في 21 من مارس 1977 مما علق بنا من اتهامات وتمت إعادتنا إلى السجن تمهيدًا للإفراج عنا..
لملمنا حاجياتنا وخرجنا إلى الحرية، كان هناك عدد كبير من أهالي بلدتي (المعنا) في انتظاري، ركبت السيارة ومضينا إلى البلدة، وهناك على أبوابها كان المئات محتشدين من الأهالي يصطحبون معهم فرقة مزمار بلدي، ورقص الناس في الموكب فرحًا بالبراءة، وكانت أسرتي الأم والأب والإخوة الأكثر سعادة.

مضت الأيام، لم أستجب لنصائح أمي بالبعد عن السياسة بقيت أمينًا لمنبر اليسار بمحافظة قنا وعضوًا بالأمانة العامة للحزب، لم يتوقف نشاطي ولو للحظة من الوقت.

2- السجن الغربي رايح.. جاي!!


في نوفمبر 1977، أعلن الرئيس السادات، استعداده لزيارة القدس بهدف تحقيق السلام مع العدو الصهيوني، لم أصدق نفسي وأنا أستمع إلى خطابه تحت قبة البرلمان، كيف، ولماذا، وهل يستطيع أن يفعلها؟!
كان الأمر صادمًا بالنسبة لي، لم أنم هذه الليلة خاصة بعد أن تم الإعلان أن الرئيس السادات سيزور القدس فعلًا في 19 من نوفمبر 1977، وسيلقي خطابًا أمام الكنسيت الإسرائيلي وبحضور الإرهابي مناحيم بيجين رئيس الوزراء والمسئول الأول عن مذبحة دير ياسين..



كان كل شيء معد سلفًا، أغلقت علي باب غرفتي فى المساء، وراحت الدموع تنهمر من عيني، لم أصدق أن الرئيس السادات سيفعلها؛ ولكنه فعلها، واصطحب إلى جواره وفدًا من كبار الصحفيين، الذين أصبحت هذه الزيارة وصمة عار في تاريخهم، شعرت أني أريد أن أخرج إلى الشارع أهتف وحيدًا (لا لزيارة إسرائيل) غير أن كل شيء كان قد حسم في ساعات..


ذهب السادات ووقف على منبر الكنيست ليطلق شعارات الصلح والتسوية، مع أنه كان يدرك تمامًا أن الإسرائيليين لن يمنحوه شيئًا، باستثناء الخروج من سيناء بشروط مجحفة، ومن بينها المنطقة المنزوعة من السلاح.
 

توقيع اتفاقية كامب ديفيد ومظاهرات رفض التطبيع


لم أتخيل أن أرى علم إسرائيل يرفرف في سماء بلادي، وأن يسمح للقتلة بالتجسس على مصر تحت مسمى الدبلوماسية.
قلت لنفسي: لقد تربينا على العداء للإسرائيليين الذين احتلوا أرضنا وشردوا شعبنا ودنسوا مقدساتنا، فكيف يمكن القبول بهم على أرضنا ومصافحتهم من رئيس دولتنا؟!
ظللت أناضل في المؤتمرات ضد اتفاقية كامب ديفيد رفضًا للتطبيع مع العدو، وفي هذا الوقت أصدرت كتاب (الإرهاب الصهيوني) عن دار العربي للنشر، وبعده كتاب (بيجين وقضايا العنف والسلام) عن دار الثقافة الجديدة بهدف المشاركة فى فضح المخططات الصهيونية والتذكير بجرائمهم ضد مصر وفلسطين والعرب جميعًا.


وبعد توقيع اتفاقية التسوية بين مصر وإسرائيل في مارس عام 1979، جرى افتتاح السفارة الإسرائيلية في 26 من فبراير عام 1980 على أرض مصر، يومها وقفت في وسط جمع من طلاب فرع جامعة أسيوط بقنا.
 

                                                         مصطفى بكرى 

وهتفت في الطلاب رافضًا للتطبيع ومطالبًا بإغلاق السفارة الإسرائيلية في مصر، التفّ حولي مئات الطلبة داخل الجامعة، ومضينا في مظاهرة كبرى اخترقت شارع المدارس، مرورًا بمنطقة المنشية، ثم اتجهنا إلى مدرستي التحرير الإعدادية والشهيد عبد المنعم رياض الثانوية، كان الطلاب قد حملوني على الأعناق، احتشد الآلاف الذين أخذهم الحماس ورددوا من خلفي شعارات المطالبة بإسقاط النظام واعتبرنا أن ما يحدث هو خيانة لدماء الشهداء، كان عدد المتظاهرين قد بلغ أكثر من خمسة آلاف متظاهر في هذا الوقت، عقدنا مؤتمرًا كبيرًا أمام مدرسة الشهيد عبد المنعم رياض وأحاطت بنا قوات الأمن مما دعانا إلى الانصراف، وكانت هذه المظاهرة هي الوحيدة التي خرجت في مصر رفضًا لإنشاء سفارة إسرائيلية على أرض مصر.
 

كنت على ثقة أن قرارًا باعتقالي سوف يصدر، وأن زوار الفجر حتمًا سيأتون إلى منزلي، وفي هذا اليوم قررت المبيت عند أحد أقاربي، وعندما علمت في وقت متأخر من الليل أن قوات الأمن اقتحمت منزلنا وقامت بتفتيشه قررت السفر إلى القاهرة في الصباح الباكر.

لم يكن باستطاعتي الذهاب إلى محطة القطار في مدينة قنا، فقد كنت على ثقة أن رجال الأمن سيكونون في الانتظار، فخرجت من البلدة راكبًا دراجة خلف أحد الأقارب في الخفاء ثم ركبت السيارة المتجهة إلى مركز دشنا، ومن هناك استقللت القطار المتجه إلى القاهرة هربًا من المطاردات الأمنية والسجن.
 


 

وصلت إلى القاهرة في اليوم التالي، وبدأت التخفي بعيدًا عن منزل عمي المعروف لدى الجهات الأمنية، وذهبت إلى أقارب آخرين، وظللت متواجدًا لديهم على مدى ما يقارب الثلاثة أشهر، وقبيل امتحان الليسانس بقليل، قررت العودة كان شقيقاي محمود وأحمد وبعض المحامين في انتظاري، وصلت إلى مكتب نيابة قنا الكلية، وقدمت نفسي لرئيس النيابة؛ حيث تم إخضاعي للتحقيق، وسؤالي عن مظاهرات فبراير 1980 والهدف منها، وتم توجيه تهمة تكدير الأمن والسلم العام والتحريض على التظاهر والدعوة إلى إسقاط نظام الحكم.

بعد قليل جاء رئيس مباحث بندر قنا (الرائد بهاء) اقتادني إلى سجن قنا الغربي، حدثت مشادة واشتباك بيني وبينه، تم التنكيل بي وحلق شعري بطريقة غير إنسانية، وتم اقتيادي إلى زنزانة انفرادية، فقررت الإضراب عن الطعام لمدة ثلاثة أيام، وراحت إذاعة صوت مصر العروبة في بغداد تندد بسجني وتنقل أخباري، كان المقدم أحمد ضيف صقر، الضابط بجهاز مباحث أمن الدولة هو الذي تولى اصطحابي مبكرًا لأداء امتحان الليسانس، وكان شخصية محترمة، وتعامل معي باحترام كبير، أمضيت في سجن قنا نحو شهر تقريبًا، ثم تم الإفراج عني وحفظت القضية دون محاكمة.
 

                         مصطفى بكرى مع عدد من أصدقاءه 
 

بعد الإفراج عني جاءت أمي إلى غرفتي، أغلقت الباب، وظلت تبكي وهي ترجوني أن أكف عن السياسة والمظاهرات؛ لأنها لم تعد قادرة على تحمل الفراق والغياب.
كنت أحاول الدفاع عن وجهة نظري، وأوضح لها أن الصمت قاتل بالنسبة لي، وأن وجود سفارة لإسرائيل عار سيظل يلاحقنا أبد الدهر، فكانت دومًا تقول لي: هو مفيش حد في البلد غيرك يا ولدي، خاف على نفسك يا محمد، وأقعد ساكت..!!
كنت أحاول أن أهدئ من روعها، وإدخال الطمأنينة إلى نفسها، إلا أنها كانت تدرك تمامًا أنني لن أتوقف ولن أتراجع، ولم يكن أمامها من خيار إلا النصيحة والرجاء.مضت الأيام ثقيلة في هذه الفترة، اتسع نطاق الانتقادات ضد اتفاقية كامب ديفيد، عقدنا العديد من المؤتمرات الكبرى بحضور خالد محي الدين والشيخ إمام، وأبو العز الحريري ومحمد خليل وآخرين كانت أصواتنا عالية، تندد بكل حسم وقوة، ورويدًا رويدًا بدأ الخناق يضيق على النظام فكانت حملة اعتقالات سبتمبر 1981 .. والحديث بقية .

تابع موقع الجمهور عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا

تابع موقع الجمهور عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا

الجمهور، موقع إخباري شامل يهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري بما يليق بقواعد وقيم الأسرة المصرية ، لذلك نقدم لكم مجموعة كبيرة من الأخبار المتنوعة داخل الأقسام التالية، الأخبار، الاقتصاد، حوادث وقضايا، تقارير وحوارات، فن، أخبار الرياضة، شئون دولية، منوعات، علوم وتكنولوجيا، خدمات مثل سعر الدولار، سعر الذهب، سعر الفضة، سعر اليورو، سعر العملات الأجنبية، سعر العملات المحلية.

search