شهادات وذكريات، يرويها مصطفى بكري لـ«الجمهور»: (قطار الدرجة الثالثة)
الكاتب والبرلمانى مصطفى بكرى
بقلم مصطفى بكرى
- القاهرة حلم كل صعيدي والعتبة الخضراء قبلته
- فى منظمة الشباب تعلمنا دروس الوطنية ومعنى الانتماء
- بعد ما يقارب الشهر عدت إلى بلدتي.. وكانت المفاجأة
هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشت فصولها، انتصاراتها وانكساراتها، حلوها ومرها، اقتربت من صناع هذه الأحداث أحيانًا، وكنت ضحية لعنفوانهم فى أحيان أخرى، معارك عديدة دخلتها، بعضها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي، وقناعاتى.
أروى هذه الشهادات التي ينشرها موقع "الجمهور" بصدق وموضوعية، بعض شهودها أحياء، والبعض رحل إلى الدار الآخرة، لكن التاريخ ووقائعه لا تنسى، ولا يمكن القفز عليها، وتزوير أحداثها.
وفى هذه الحلقات التي تنشرها "الجمهور" يوم "الجمعة" من كل أسبوع يروى الكاتب والبرلماني مصطفى بكرى شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم السادات ومبارك والمشير طنطاوى ومرسى والسيسي.
الخطوة الأولى.. داخل القطار
منذ الصباح الباكر، قلبي يخفق، في الليلة السابقة عيناي لم تريا للنوم طعمًا، أحلامي تحلق عابرة كل الحصون والمنحنيات تصحو أمي في وقت متأخر من الليل تسألني لا أجيب، كأنني في عالم آخر، لا أريد أن أنام أعد الدقائق والساعات أنتظر شروق الشمس أغمض عيناي، لكنني سرعان ما أصحو، أستعجل أذان الفجر، وأشتم رائحة الصباح تمضي ساعات طويلة، ها هي الآن تقترب من السابعة مساءً.
أقفز بسرعة إلى داخل القطار، انظر من شباك مزدحم، ثلاثون فردًا بالتمام والكمال، جاءوا لوداعي وكأنهم أمام لحظة الوداع الأخير، أشعر وكأن أمي ترفع يدها وسط الحشود تنساب الدموع على وجهها الأسمر الجميل، يدق قلبي بعنف، أشعر بغربة فظيعة وكأنني ذاهب بلا عودة!!
وفي تمام السابعة مساء انطلق القطار من قنا إلى دشنا إلى نجح حمادى، إلى أبو تشت. الآن عبرنا الحدود قال محدثي: داخلين على سوهاج يابوي كل واحد يخلي باله على روحه!
نظرت إليه بدهشة شديدة وقلت: ليه حيحصل إيه؟ نظر إلى وقال مستنكرًا: اسكت وبطل لماضة أمسكت بلساني ودققت النظر أبحث عن بعض الرفاق الذين تاهوا في زحمة البشر.
قبل أن تحط قدماي محطة القطار كنت قد قضيت أكثر من ساعتين مع أحد أبناء بلدتي من الذين يترددون دومًا على القاهرة.. أجلسني أمامه فيما يشبه جلسة النصح والإرشاد، كان حاسمًا سألني في البداية واخد معاك شنطة ولا قفة؟ قلت له واخد شنطة جلد تشيل قفتين، قال ببرود أعصاب. خلي بالك من شنطتك، أقعد عليها في القطر ومتخليش حد يقرب منها.
سألني: واخد فيها حاجة طرية؟ قلت: زي إيه: قال: بطة ولا فروج، قلت: لأ أنا بس واخد هدومي ومصحفي ومعاي فروجة مسلوقة، قال: معاك فلوس كتيرة، قلت له: يعني، قال مرة ثانية: خلي أمك تخيط جيبك عشان محدش يسرقك!!
كنت أستمع إلى نصائحه بإصغاء شديد: «اوعى تقل عقلك وتشتري حاجة وأنت في القطر، بكرة تشوف في مصر أكل أشكال وألوان، سال لعابي كثيرًا وأنا أستمع إليه، أدرك الرجل ما يخالج نفسي، قال بصوت متهدج: خلي بالك من بنات مصر، حاكم دول حلوين قوي، شعرهم أصفر، ولابسين بنطلونات، الواحدة تديك عين تجيبك الأرض وتدوس عليك كمان، نظرت إلى أسفل وتصببت عرقًا، وقال متهكمًا: هو في راجل صعيدي يتكسف!!
ابتسمت وأنا أتذكر نصائحه، كان القطار قد اقترب من محطة أسيوط، الناس تتكالب من كل اتجاه، النوم يتسلل إلى عيني، من بين الجموع كان يقفز كالفراشة، صوت يزلزل المكان «عيش وبيض وجبنة».
تذكرت الوجبة التي كنت أضعها في مكان متقدم من الحقيبة، أخرجتها بهدوء، ضربت يدي أبحث عن رغيف العيش البلدي الذي يشبه كرش من كان يجلس أمامي، دفعت بهما أمام الجميع، وطلبت من الحاضرين أن يشاركوني «باسم الله»، ثوان معدودة الفرخة طارت، اختفت بداخل الكروش التي تزاحمت عليها، لم يصلني منها سوى قطعة صغيرة، حمدت الله، نظر إلي من يزاحمني في المكان والطعام، وقال بلغة هي أقرب إلى الأمر: «معاك حاجة حلوة، شوية بلح أو برتكان»؟!
كان يمصمص الشفاه بصوت مسموع، شعرت بتقزز شديد، قلت له: واضح إنك صايم من سنتين، أدرك ما أقصده، غمرني بعينيه، وكانت نظراته حادة، ظن أنه يخيفني، لكنه فوجئ بي وأنا أقول له: يا راجل لطشت ربع الفرخة.. وأكلت نص الرغيف لوحدك، وزانقني بكرشك الكبير وتقولي عاوز تحلي، انت فاكرها عمارة من غير بواب، نظر إلى الرجل وقد وضح عليه الارتباك، بينما راح من حولي يطلقون قهقهات لا تخلو من سخرية!!
كان عليّ بعد ذلك أن أظل يقظا، قاومت النوم بكل ما أملك، إنها المرة الأولى التي أسهر فيها إلى وقت متأخر من الليل، فنحن ننام في الريف مبكرًا، ونصحو مبكرًا، لكنني اعتبرت نفسي في حالة صراع مسلح وحرب قد تتخذ وجوها متعددة مع صاحب الكرش الذي بدأ يضيق على الخناق، ويمدد رجليه بطريقة أثارت غضبي، وأيضًا مع الآخرين الذين لا أعلم نواياهم!!
دقائق قليلة وغاب الرجل عن الوعي، فقد راح يغط في نوم عميق، ويطلق شخيرًا زلزل أركان العربة، أيقظ النائمين، وأحدث هلعًا للأطفال والنساء.. أثار حفيظتي حاولت أن أسد أذناي، لكن طلقاته كانت أقوى من الرصاص؟!
حلم الوصول إلى القاهرة يقترب
ياه لا يزال قلبي منقبضًا، أتلهف على رؤية القاهرة، شعوري بالغربة يتزايد كلما باعدني القطار عن أهلي وقريتي، قلت في نفسي: أعرف أمي جيدًا، أبدًا لن تسلم رأسها للنعاس، إنها تخاف على أكثر من نفسها، دموعها لن تجف إلا بعودتي.. أتخيل وجهها الطيب، ووجه أبي القادم من جوف التاريخ.. يحكى لي عن عائلتنا التي نزحت من أسوان إلى هذه القرية منذ عقود طويلة من الزمن.. مصير الحي يتلاقى، جدك الكبير أبو صيام حط به الرحال هنا في هذه البقعة، كنا من أوائل العائلات التي استوطنت في هذا المكان.
الابتسامة تزحف إلى وجهي وأنا أتذكر صراع الديكة بين أمي وأبي حول العائلات والنسب.. كانا يبحران إلى عالم القرى المجاورة، إلى يوم الزواج الأول: قال أبي، أنا أتجوزت أمك وكان عندها 15 سنة، لا تسألني كيف ولماذا.. كان الجهاز بسيطًا، وكان المهر جنيهات معدودة، لكن الراجل يتمسك من كلمته، هكذا قال وراح يغوص في ذكرياته القديمة!!
تذكرت شقيقي محمود –رحمة الله عليه- وهو يقول لي: يهون عليك ياخويا تسيبني وتروح مصر، والنبي أوعى تتأخر!!
كان محمود الأقرب إلى قلبي وعقلي، وكان أخي أحمد لا يزال صغيرًا بعد.. لكن أمي لا تزال تقذف بالذكور والإناث حتى بلغ عددهم فيما بعد ثمانية، وعندما كنت أزمجر وأحتج وأقول كفى، كان أبي يقول لي: «وأنت زعلان ليه يا ولدي اللي ميعرفش يتعرك يعقط بالطوب» وترجمتها «من لن يستطع المشاركة في المعركة دفاعًا عن الأسرة فسوف يقذف بالأحجار».
بين الحين والآخر كنت أتحسس جيبي، اطمئن إلى أدراجي سريعًا، أشعر بلذة الانتصار، لكنني أتخوف من لصوص المدينة، هؤلاء الذين يقفزون إلى الأتوبيسات ويشقون الجيوب ويسرقون كل ما بداخلها، وإذا ما اعترضت سبيلهم فتحوا كرشك بمطواة قرن الغزال.. قلت أبدًا لن يسرقونني ويا قاتل يا مقتول، وقبضت على جيبي بقوة!!
كان كل صعيدي على يقين أنه مستهدف في ماله وكرامته ومصالحه وممتلكاته، كانت الثقافة السائدة أننا مستكردون، وأن الحرامية يلعبون بالبيضة والحجر، وإيديهم خفيفة، ولديهم سحرًا غريبًا، وقادرون على سرقة الكحل من العين، بأساليب لا أحد يستطيع كشفها!!..
الاعتزال.. خياري الوحيد
قلت لنفسي: خياري الوحيد هو في الاعتزال، البشر والمكان، كنت أقول: أبدًا لن أصدق أحدًا منهم، من يدري حيلهم وأساليبهم، سأحافظ على جيبي ولو كان الثمن هو الحياة، كنت مستنفرًا طيلة الوقت، قلت إن من سيقترب مني سأنط في كرشه، ولن أدعه يضحك علي، وإلا أصبحت مسخرة في البلد!!
بعد قليل تململ أبو كرش، رفسني برجله رفسة لن أنساها، كنت قد خلعت حذائي، وفجأة دفعت برجلي في مواجهة جسده الممتد إلى جواري، صحا وقفز من على كرسيه وكأنه ثور هائج أمسك برقبتي، وقبل أن يدفع بي، أمسك أحد الجالسين بيده وقال له يا راجل عيب عليك أنت حتعمل عقلك بعقله ده عيل ميجيش في وركك حاجة، سيبه يا شيخ!!
راح الثور الهائج يتمتم بكلمات غير مفهومة، كنت مستفزًا ومستنفرًا، حمدت الله أنني لم أحضر معي مطوة، أو حتى منجل، وإلا كان كرشه يتبعثر أمامي، قلت له وكلي ثقة: عيب عليك.. لم نفسك.. نظر إلى الجالسين والواقفون نظرة تعجب، قال أحدهم: اقعد يا واد أحسن يهرسك، بينما راح آخر يقول بسخرية: «باين عليك موش حتجيبها لبر» قال الكمساري بعد قليل: يالله كل واحد يلم حاجته داخلين محطة رمسيس وورونا عرض كتافكم.. تحسست حقيبتي وجيبي وانتظرت، فلن أطلق قدماي للريح إلا بعد أن تهدأ الأحوال، راح الناس يتزاحمون للخروج، بينما بقيت منتظرًا لبعض الوقت.
في محطة مصر
في محطة رمسيس كان الوقت مبكرًا، السماء صافية، وجوه متعددة تحتل الرصيف، أناس من كل حدب وصوب، الحشود تتدفق من داخل القطار إلى خارجه، سيدة صعيدية وجدت نفسها محشورة بين المتسابقين للخروج، وقفت أتأمل مشهد السيدة، تكلم هذا وتسب ذاك وتصارع من أجل الخروج سالمة ودون أن يلمسها أحد.
رحت أبحث عن الزملاء الذين تاهوا داخل القطار، لقد تواعدنا باللقاء على رصيف المحطة، ها هو صديقي محمد علي عبد اللطيف يرفع يده وكأنه انتصر في موقعة عين جالوت، التقينا سويًا، ووقفنا ننتظر الآخرين.
الآن تجمع الوفد، أعرف أن الأتوبيس ينتظرنا داخل الميدان، إذن هذه هي محطة رمسيس التي يتوه فيها الصعايدة، لا تعرف أين سيقف القطار وفي أي رصيف، قد تجد نفسك محرم على القللي، وحتمًا ستكون أمك داعيالك إذا مضيت باتجاه هذا التمثال الشامخ الذي يقف في ميدان المحطة، إنه تمثال رمسيس الثاني الذي جاءوا به من قلب الصعيد، ليقف هنا شامخًا والمياه تتدفق من جسده إلى نافورة واسعة تسر الناظرين، قلت لزملائي: عاوزين نغسل وشنا، عيب ده إحنا في مصر.
أسرع الجميع إلى دورة المياه التي تقع في مدخل المحطة، وقفنا بالدور، طلب منا العامل قرش صاغ بالتمام والكمال، دفعته مرغمًا، فقد كنت محشورًا، لم أكد أغلق علي الباب حتى انهمرت الطرقات، على الباب: يالا يا بلدينا.. اخلص!!
الطرق يتزايد، “اديته الطرشة”، ولم أخرج إلا بعد أن انتهيت، نظر إلي نظرة حادة، وكأنه أراد أن يقول: مشفتش حمام قبل كده!!
بعدما غسلت وجهي مضيت إلى الزملاء الذين كانوا ينتظرون، هبطنا سلالم المحطة، تأملت الوجوه النضرة الداخلة والطالعة، نظرت باحتقار إلى شباب يطلقون شعورهم ويرتدون بنطلونات الشارلستون والحذاء أبو كعب، قلت في نفسي: إذن دول العيال الخنافس!!
تمثال رمسيس الثاني
في ركن جانبي من الميدان، كانت هناك عربة لبيع ساندوتشات الفول والطعمية، قرون الفلفل الأخضر تتصدر الواجهة، كدت أتوجه إلى هناك لولا أن أحدهم دفع بي إلى الأمام قائلًا: يا الله يابو بكري خلينا نروح حلوان.. تأملت مشهد تمثال رمسيس الثاني، وقفت أمامه، وبللت يداي من المياه التي تتدفق من أسفله، نثرات الماء تذكرني بالترعة والسحارة في بلدتي عندما كنا صغارًا، كنت أصطحب التلاميذ وأمضي بهم إلى هناك، وأقلع يا جدع وارمي نفسك في الترعة، ليس مهما أن تكون على معرفة بالعوم، المهم أن تطبش حتى تنجو من الغرق، كنت مغامرًا، أنطلق دون حساب وأمضي دون تردد، كانت لدي قناعة بأنني لن أغرق، لأنني أكلت ذر البصلة، لقد قالوا لنا أن من يأكل «ذر البصلة» لا يمكن أن يغرق، وبعد أن أكلتها ألقيت نفسي في ترعة السحارة الغريقة العميقة وأنا بعد طفل صغير لم يتجاوز عمري العشر سنوات. عندما كان يسألني الزملاء: كيف حدث ذلك، كنت أتحدث بفخر عن «ذر البصلة» الذي يعطيك القوة للعوم والتجديف ومقاومة الغرق.
كانت لدي ثقة غريبة في ذلك، وهو ما دفعني إلى أن ألقى بنفسي في «ساقية عمار» من مسافة أربعة أمتار لأغوص فيها، بينما رفاق الصبا يشاهدون ما يجري غير مصدقين، بل إن أحدهم ذهب مسرعًا إلى منزل أسرتي ليخطر والدتي أن ابنها غرق في الساقية.
وعندما جاءت على عجل وجدتني كالجن الأزرق أعوم على ظهري وأقدف بساقي، بينما هي غير مصدقه لما ترى حتى أن أحدهم ذهب وجاء إلي بحبل طويل لكي أمسك به.
ضحكت وقلت: أنا حطلع على حبل القواديس يا بلدينا.. ذكريات لا تنسى انتهت على صوت أحد الأصدقاء وهو ينادي: يالله يابو بكري.
مضيت سريعًا، ركبنا سويًا في الأتوبيس الذي كان ينتظرنا على قارعة الطريق، سوف يتجه بنا إلى حلوان، مشغول أنا بمتابعة الحياة في شوارع القاهرة، أتفحص الوجوه أتذكر الحكايات التي رويت لي، وأطابقها على أرض الواقع.
وصلنا إلى حلوان بعد مضي أكثر من ساعة ونصف الساعة، كنت أتمنى مزيدًا من الوقت حتى أتمتع بجمال القاهرة وأهلها.
معهد الدراسات الاشتراكية
الآن وصلنا إلى هناك، لقد تم استقبالنا على باب معهد الدراسات الاشتراكية، حشود من كل حدب وصوب، جاءت من كل المحافظات، ثم تسجيل أسماءنا وتسكيننا داخل الخيام سريعًا، ارتدينا البدل الكاكي، وتم تقسيمنا إلى مجموعات، بدأنا في دراسة برنامج مكثف واستمعنا إلى محاضرات لأساتذة كبار، تعرفت على الأستاذ محمد رجب أمين التنظيم بالمنظمة، والمحاضر ماهر سمك، وسيد الطحان وغيرهم كثيرون، كانت أسماء د. مفيد شهاب، ود. حسين كامل بهاء الدين، ود. عبد الحميد حسن، ود. علي الدين هلال تتردد كثيرًا في هذا الوقت.
قضيت 21 يومًا من أكثر الأيام أهمية في حياتي، تعلمت فيها الكثير، وبعد انتهاء المدة المحددة، مضيت إلى منزل عمي الذي ترك البلدة وهاجر إلى الجيزة منذ سنوات طوال، حيث أقام في بولاق الدكرور إلى جانب العديد من أبناء البلدة الذين عاشوا سنوات طوال في هذه المنطقة التي تكتظ بأبناء الصعيد.
قمت بزيارة سيدنا الحسين والسيدة زينب، تجولت في المناطق المحيطة بهما وقرأت الفاتحة ودعوت لأمي وأبي وأخوتي وكل أقاربي، تذكرت جدي كثيرًا، وذكريات الحديث معه عن القاهرة والجيزة والأماكن التي يتجه إليها أبناء الصعيد بمجرد أن تطأ أقدامهم أرض المحروسة.
كان جدي لوالدتي «سيد محمد بن عمار العقيلي» -رحمة الله عليه- يحدثني عن مصر –هكذا كانوا يسمون «القاهرة»- يتغزل فيها وفي جمال، وكانت حكاياته مثيرة عن حديقة الحيوان والعتبة الخضرا وإرث الصعيد فيها، وعن بنات مصر اللاتي يخطفن الرجال ويعاكسون في الشوارع، عن المأكولات والمطاعم وفنادق كلوت بك المجاورة لمحطة رمسيس.
القاهرة الجميلة
مضيت أتجول في القاهرة وكأني أريد التعرف على شوارعها وأهلها، بعد أن أنهيت زيارتي للسيدة والحسين، توجهت على الفور إلى العتبة الخضرا، كان أغلب البائعين يرتدون الجلباب الصعيدي، وكانت لهجتهم هي لهجة أبناء الصعيد، شعرت بحالة غريبة من الارتياح، بدأت اشتري بعض الحاجيات الرخيصة كهدايا لأمي وأبي وأخوتي وخالاتي وعماتي وجدي وجدتي، ذلك أنه لم يكن طبيعيًا أن أعود إلى بلدتي بعد زيارتي لأم الدنيا وإيدي فاضية!!
استقليت أتوبيس (17) العتبة – بولاق الدكرور، عدت إلى منزل عمي في عصر ذلك اليوم، كنت تواقًا إلى العودة سريعًا إلى بلدتي، وحشتني الطبيعة والبشر، ولكن كيف أعود دون زيارة حديقة الحيوان، في اليوم التالي مضيت إلى هناك، عالم غريب اختلط فيه البشر بالحيوانات، كنت أتنقل من مكان إلى مكان، أتأمل هذه المخلوقات الغريبة، كان يرافقني سعيد ابن عمي في هذه الزيارة، وكأنه كان مرشدًا بالنسبة لي، فقد سبق له أن زار الحديقة كثيرًا، وتعرف على كل جزء فيها، قضينا عدة ساعات في أرجاء الحديقة، تم سرقتي من أولاد الحرام لكنني استعدت جنيهاتي بفضل رجال الأمن، وفي نحو الرابعة من بعد عصر هذا اليوم، عدنا إلى المنزل وبدأت استعدادي للسفر والعودة إلى بلدتي إلى الصعيد.
العودة إلى قنا
ساعات طوال قضيتها في قطار العودة، اشتقت إلى أسرتي وبلدتي كثيرًا، تحسست الهدايا (القيمة) التي جئت بها من العتبة الخضرا، وتخوفت من أن يخطفها أحد من أولاد الحرام الذين يتواجدون في مثل هذه القطارات، كان القطار مزدحمًا كالعادة، وصوت البائع (بيض وعيش وجبنة) لا يتوقف، الضربات واللكمات التي تلقيتها بسبب التزاحم عكرت مزاجي في هذا المساء، تخوفت أن يغالبني النوم فلا أتمكن من النزول في محطة قنا، عندما وصل القطار إلى محطة نجع حمادى، هممت بالوقوف حتى لا أقع فريسة للنعاس، بعد أن نال مني التعب كثيرًا بحثت عن المياه لغسل وجهي، لكن الحنفيات كانت خاوية، بعد محطة نجع حمادى، جاءت محطة دشنا، أنظر من الشباك، أتابع أسماء القرى والنجوع بعد قليل، جاءت بلدتي الحبيبة، قلبي يكاد يقفز من جسدي شوقًا.. دخلنا إلى محطة قنا كان شقيقي محمود في انتظاري، أمسكت بحقيبتي الصغيرة وأطلقت ساقاي للريح، مضيت أنا وشقيقي إلى بلدتنا، كانت أمي تجلس أمام البيت في انتظار عودتي، وما أن رأيتها حتى أسرعت الخطى، واحتضنتها حضنًا طويلًا، شعرت بدموعها تبلل وجنتيى، فبكيت من حرقة الاشتياق.
قالت لي: كل ده في مصر يا محمد (محمد هذا هو اسمي)، هان عليك تسيبنا يا ولدي، ده أنا كنت حموت عليك، اوعى تاني تروح مصر.
أدخلتني إلى المنزل، كان أبي قد صحا لتوه من النوم، احتفى بي كثيرًا، نظر إلى أمي وقال لها: متخافيش عليه، ولدك راجل.
فتحت حقيبتي على الفور وبدأت في توزيع الهدايا البسيطة التي جئت بها، ورحت أحكي لهم مشاهداتي وانطباعاتي عن هذه الزيارة.
في المساء اجتمع حولي بعض رفاق الصبا، وبدأت أعيد الحكاية وأرويها من جديد وكأنني (عبد رحيم) بتاع الرحمانية قبلي، فعلت مثل ما فعل (دياب) في فيلم الأرض بعد الإفراج عنه، مضيت مسرعًا إلى كل مكان، إلى الترعة إلى الجميزة إلى الغابة إلى ساقية عمار إلى كولة قديس في الجبل، كأنني أحتضن الأماكن وأخاطبها، أبحث في وجوه الناس عن أشياء افتقدتها هناك.
وبعد صلاة العشاء كنت أخلو إلى نفسي، وأتأمل الحياة من حولي، وأتذكر كلمات سمعتها في الدورة التثقيفية، وأتساءل ما العمل؟!
القفز إلى المجهول
جاء يوم الجمعة، كنت قد أعددت كل شيء، كتبت عدة أوراق بخط اليد، وقمت بتعليقها في الشوارع في وقت مبكر من هذا الصباح، كان مضمونها (أطلب منكم يا أهل بلدتي الانضمام إلى جمعية الوعي الاشتراكي)!!
ذهبت إلى الصلاة، وما أن انتهى الخطيب الحاج محمد عبد القادر من خطبته، حتى صعدت إلى المنبر مخاطبًا المواطنين البسطاء من أهل بلدتي قائلًا: هل يرضيكم أن يمتلك سيد مرعي 300 بقرة، وهو واحد من كبار المسئولين في الدولة، وأنتم لا تملكون شيئًا، نظرت إلى الحاضرين وسط دهشتهم وقلت: لابد من تحرك، لقد أسست لكم جمعية «الوعي الاشتراكي» أطلب منكم الانضمام إليها حتى نستطيع تغيير حال البلد.
أبدى كثير من المصلين استغرابهم ودهشتهم، كانوا غير مصدقين لهذا الكلام الذي سمعوه منذ قليل، التفوا حولي يسألون لماذا وكيف وليه؟ عندما تركت المسجد وذهبت إلى المنزل، استعدادًا لتلقي أسماء المنضمين، وبعد صلاة المغرب فوجئت بمخبر أمن الدولة (الصول سيد) وهو من أبناء قرية دندرة المجاورة، يأتي إلى منزل خالي سعد، ويطلب منه إحضاري إليه في وجود بعض قيادات وحدة الاتحاد الاشتراكي في المنطقة، وعندما حضرت راح يوجه لي أسئلته، من قال لك هذا الكلام، ولماذا قلته في المسجد، وإيه حكاية جمعية الوعي الاشتراكي، وهل لإمام الجامع الحاج محمد عبد القادر صلة بهذا الحديث؟!
حاصرني بالأسئلة من كل اتجاه، وأنا لا أملك غير كلمة واحدة: محصلش، لم يجد إجابة شافية، قال له أعضاء الاتحاد الاشتراكي وتحديدًا الحاج حسين أحمد والحاج عبيد مبارك: اتركه لنا، ومش حيعمل حاجة تاني، حاولت الرد والحديث، إلا أن خالي زجرني وقال: اسكت أنت يا محمد واسمع الكلام!!
شرب المخبر الشاي، مرة واتنين وثلاثة، وقضى بعض الوقت، ثم سرعان ما انصرف وهو مطمئن بأنني لن أكرر ذلك مرة أخرى!!
تابع موقع الجمهور عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع الجمهور عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا
الجمهور، موقع إخباري شامل يهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري بما يليق بقواعد وقيم الأسرة المصرية ، لذلك نقدم لكم مجموعة كبيرة من الأخبار المتنوعة داخل الأقسام التالية، الأخبار، الاقتصاد، حوادث وقضايا، تقارير وحوارات، فن، أخبار الرياضة، شئون دولية، منوعات، علوم وتكنولوجيا، خدمات مثل سعر الدولار، سعر الذهب، سعر الفضة، سعر اليورو، سعر العملات الأجنبية، سعر العملات المحلية.
أخبار ذات صلة
هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل الإنسان في سوق العمل؟
-
نعم
-
لا
أكثر الكلمات انتشاراً