الدكتور محمد كامل الباز يكتب.. ماذا تريد الحكومة من الطبيب؟
إذا تجولت في معظم دول العالم ذات الطبيعة الاستثمارية تجد شىيئا غريبا، اهتمام خاص بل وكبير بالناحية الطبية والتعليمية، الطبيب والمعلم في كثير من دول العالم يُعد كنزا من كنوز الأرض، لا يجب التفريط فيه، لا يجوز المساس به، تجد في كندا الطبيب من أعلى الفئات أجرا، تشاهد في أوروبا وأمريكا الطبيب من الفئات العليا بل الهامة جداً في المجتمع، لكنك إذا اتجهت جنوباً أو شرقاً إلى عالمنا العربي تجد عكس ذلك تماماً، لو توقّفت بك آلة الزمن سنين ونزلت للمحروسة تجد أرض الكنانة تعامل الطبيب معاملة خاصةً ولكن من نوع مختلف هذه المرة، تشعر أنك أمام فئة خارجة عن القانون من الواجب ردعها، تجد إعلام يهاجم الطبيب على الشهيق والزفير، برامج تحاسب الطبيب على الهمسة، صحافة تطلب دائماً حساب الملكين لأي طبيب، تُوجت تلك المعاملة الخاصة بتعديل قانون المسئولية الطبية الذي أقره مجلس الوزراء وفوجئ الجميع به.
بدلا من إصدار قانون ينظم المسئولية الطبية ويوضحها بين الطبيب والمريض ظهر قانون يعاقب الطبيب الذي نتج خطأ طبي أثناء علاجه بالحبس!! نعم كما أشرح لكم بالحبس!!
يذاكر الطالب في الثانوية العامة ويأخذ دروسا ويكلف رب الأسرة المسكين الجلد والسقط، تسهر الأم وتدفع من صحتها وشبابها ليدخل ابنها كلية الطب، بل يستدين الوالد ليعلم ابنه في الكلية، تتكاتف الأسرة كلها كي يخرج منها طبيباً ينفع الناس وإذا يُفاجئ الجميع برد الجميل من الحكومة بإعداد هذا الطبيب للسجن!!
مطلوب من هذا الطالب المجتهد عدم الخضوع لقدر الله والتغلب على المضاعفات العلمية الموجودة في الكتب والأبحاث.
مطلوب عدم حدوث أي توابع طبية محتملة أثناء عمله، مطلوب من هذا الابن المجتهد الذي ذاكر وكافح طيلة عمره أن يقف الحظ معه في أى عملية جراحية يقوم بها، وألا تحدث أي مضاعفات حتى لو كان ذلك وارد علمياً!!
ماذا تريد الحكومة من الأطباء؟ هل هم أقلية لا تمثل بلدها!؟ عندما شاهدت هذا القانون تذكرت عبد الحليم حافظ وإحساسه بالظلم دائما تجاه معاملة والده في الخطايا، لكن عماد حمدي كانت عنده الجرأة ليشرح لعبد الحليم السبب، هل تملك الحكومة نفس الجرأة لنعرف منها سبب كل هذا الاضطهاد للأطباء!! بدل عدوى لا يقارن بموظف في البنك!! تأمين ضد أخطار المهنة لا يكفي لوجبة غداء خارج المنزل، مرتب لا يعادل ثلث مرتب عامل في الغاز أو البترول!!
من بين جميع المؤسسات تجد الصحة الوحيدة التي فيها التفتيشات 24 ساعة!! كل هذا لم يكن كافياً ليكّمل بالسجن!! كيف يكون تصرف الطبيب الذي من الممكن أن تذهب له بأحد أقاربك أو أحباؤك وأنت محتاجه في جراحة عاجلة وخطيرة؟ بالطبع لو الحالة ليست سهلة سيعتذر عنها ويتركك تبحث
فالاعتذار أهون من السجن، كيف سيكون حال الجراح عندما يدخل عليه المواطن بطفل يحتاج تدخلا سريعا؟ بالتاكيد سيفكر في العيش والحلاوة قبل التفكير في حياة الطفل.
قانون سيجلب الكثير من المشاكل في المنظومة الصحية التي تحتاج للدعم والتأييد فضلاً عن الحساب والتشديد، منظومة بدأت في السنوات الأخيرة تفقد أهم عضو فيها وهو الطبيب الذي لو اطلعت على معدلات هروبه وسفره خارج البلاد سينقلب إليك البصر خاسئا، أعداد مهولة من الأطباء تركت العمل بالحكومة واتجهت للسفر خارج البلاد، وحدات صحية في كافة الأنحاء تعاني من النقص الحاد للأطباء، شعر الأطباء أنهم الفئة الوحيدة التي تُسن القوانين ضدها فآثروا الهجرة والسفر.
لم نجد قانوناً لبطلجة السايس الذي يُرهق المواطن ليل نهار أو دستوراً يمنعنا من قرف التكاتك التي تملئ الشوارع تسير عكس الاتجاه في وضح النهار، لم نشاهد قوانين لفوضى المصالح الحكومية، لم نجد عقابا للمذيع المتجاوز أو رجل الأعمال الفاسد أو حتى الاتحاد الرياضي الفاشل الذي يكلف البلد ملايين الدولارات!! وجدنا شيئا واحدا فقط قانون ينادي بحبس الأطباء.
أتمنى من الأصوات الحكيمة تغليب العقل والشورى لمراجعة هذا القانون الذي سيزيد الفجوة بين الحكومة والطبيب في ظل الحاجة الماسة لتنمية مستدامة في البلاد والتي لن تتحقق دون الاهتمام بالمنظومة الطبية، فلا يوجد مناخ استثماري في بلد تنهار فيه المنظومة الصحية، وقبل أن نفكر في عقاب ملائكة الرحمة بهذا القانون الأسود يجب أن نتذكر مساندتهم لنا وقت كورونا ومنادتنا لهم بالجيش الأبيض.