الجمعة، 13 ديسمبر 2024

11:25 م

رئيس مجلس الإدارة

محمد رزق

رئيس التحرير

أمين صالح

رئيس مجلس الإدارة

محمد رزق

رئيس التحرير

أمين صالح

Margins

الحلقة العشرون

شهادات وذكريات، يرويها مصطفى بكري لـ«الجمهور» : السيول تجتاح بلدتي

مصطفى بكري

مصطفى بكري

مصطفى بكري

A A

- في عام 1996 اجتاحت السيول بلدتي في قنا وبيوتها تحولت إلى أكوام من التراب
- تواصلت مع د. أسامة الباز وإبراهيم كامل وتولى المجلس القومي للطفولة بناء البلدة 

- عبدالرحمن الأبنودي وحمدي أحمد جاءا إلى بلدتي متضامنيْن

هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشت فصولها، انتصاراتها وانكساراتها، حلوها ومرها، اقتربت من صناع هذه الأحداث أحيانًا، وكنت ضحية لعنفوانهم في أحيان أخرى، معارك عديدة دخلتها، بعضها أودي بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي، وقناعاتي. 

أروى هذه الشهادات التي ينشرها موقع "الجمهور" بصدق وموضوعية، بعض شهودها أحياء، والبعض رحل إلى الدار الآخرة، لكن التاريخ ووقائعه لا تنسى، ولا يمكن القفز عليها، وتزوير أحداثها.

في هذه الحلقات التي ينشرها موقع " الجمهور" يوم "الجمعة" من كل أسبوع، يروي الكاتب والبرلماني مصطفى بكري شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم الرئيس السادات والرئيس مبارك والمشير طنطاوي ومرسي والرئيس السيسي.

1- السيول فى قنا 

جاءني الخبر كالصاعقة، بلدتي تغرق من جرّاء السيول، كان أخي أحمد يحدثني عن هذه المياه التي تدفقت إلى المنازل وقطعت الشوارع وأحدثت الخراب فى بلدتي "المعنا" بالقرب من مدينة قنا، إنها أقوى من السيول التي اجتاحت البلدة فى عام 1956، يومها جاء كمال الدين حسين، عضو مجلس قيادة الثورة، وزير التربية والتعليم، ليشاهد الأحداث على الطبيعة فى بلدتنا وغيرها من المناطق الأخرى التي أضيرت.

2 - خسائر السيول فى قنا

بعد أن وصلنا الخبر غادرت أنا وشقيقي محمود إلى "المعنا" استقللنا قطار المساء من القاهرة لنصل فى الصباح الباكر إلى مدينة قنا، ذكريات عديدة، وأيام خالدة لا تزال تسكن فى عقلي منذ طفولتي فى هذه البقعة الغالية، تذكرت البيوت القديمة وشوارعها التي اجتاحتها السيول، تذكرت الأهل والجيران وشجرة الجميز، التي كنت أقضى أغلب وقتي فى مذاكرة دروسي تحت ظلها وسط هذه الزراعات المترامية، وجوه الأصدقاء والأحبة، ديوان أهلنا والدواوين الأخرى، المصطبة التي كنا نتسامر ونحن نجلس عليها كل مساء.. المسجد العتيق ووجه الشيخ محمد عبدالقادر، هذا الرجل الطيب، إمام المسجد، والذى قضى كل حياته يخدم البلدة ويبنى مساجدها.

مياه السيول جرفت منازل قرية المعنا 

كان القطار يمضى سريعًا، كنت أتابع من الشباك عناوين المحطات، كان قلبي مخطوفًا، والقلق يساورني على الأهل والعشيرة، وبعد ساعات طوال وصلنا إلى محطة نجع حمادي ومن بعدها محطة دشنا، ثم محطة مركز ومدينة قنا.. كان أشقائي أحمد وعبد الحميد وجمال ومنتصر ينتظروننا، هبطنا من القطار، استقللنا السيارة وتوجهنا إلى "المعنا" على بُعد نحو ثلاثة كيلومترات من محطة القطار فى قنا.


قبيل أن ندخل البلدة كانت مستنقعات المياه تبدو مخيفة، ها هي ذي "المعنا" الحبيبة تحولت إلى أطلال، أهلنا فى الشوارع، والبيوت أصبحت أكوامًا من التراب، بيوتنا مبنية بالطوب اللبن، أثاث البيوت ملقى فى المنطقة الجبلية المجاورة، المياه راكدة، وتحول بينك وبين الوصول إلى مقصدك، لم تعد هناك بيوت أو شوارع، آلاف البسطاء الذين غضبت عليهم الطبيعة وحرمتهم من أبسط حقوقهم الآدمية فى أن يكون لهم مأوى يستظلون به من شدة الحر.

بكري والأبنودي والفنان حمدي  فى زيارة لقرية  المعنا

كانت الأرقام تقول، إن خسائر السيول فى قنا أسفرت عن انهيار 1483 منزلًا انهيارًا كليًا، وتلف حوالى 3050 فدانًا، وأدت إلى إتلاف فى الطرق الداخلية تقدر بــ17 كيلو مترًا، حيث تركزت الخسائر فى بلدتى "المعنا"، التى تضم عزبة صالح والعصارة وغيرها من المناطق الأخرى مثل الحاجر وعزبة حامد وعزبة قرقار وأولاد سمك، وكرم عمران والشيخ ركاب ونجع الحى ودندرة وإسنا "الحلة وزرنيخ".

بكري واللواء سعد الجمال وقائد المنطقه العسكريه

كان المشهد مفزعًا، بقايا بيوت متناثرة، مضيت فى الشوارع الغارقة لا تُعرف لها ملامح، البلدة أصبحت كومة من تراب، مضيت فى المستنقعات، أحاول أن أبحث عن ملامح، هنا كان بيت جدى، وهنا كانت بيوت جيرانى، بيتنا لا يزال صامدًا رغم حصار المياه، أبحث عن ديوان العائلة، أمضى فى شوارع كانت محاطة بالبيوت فلا وجدت البيوت ولا تعرفت على الشوارع. أما ديوان آل الشيخ فقد انهار هو أيضًا حاملًا ذكريات الطفولة، حيث كنا نجلس ونتسامر على المصاطب المحيطة به من كل اتجاه، ها هى شجرة الجميزة التاريخية لا تزال صامدة.. كان أخى محمود، يشير إلىّ عن الأماكن التي أصبحت أثرًا من بعد عين.

مصطفى بكري فى شوارع قرية المعنا 

مضيت إلى مدرستي، مدرسة المعنا الابتدائية المشتركة، المياه تغرق فصولها تحاصرها من كل اتجاه، هنا كان طابور الصباح وهنا كان يقف أستاذي محمود حجازي، وهنا كان أستاذي نصارى عبد الغنى مع تلاميذه، وهذه هى المكتبة التي كان يجلس فيها الحاج محمد عبدالقادر، وإلى اليمين قليلًا كان مكتب ناظر المدرسة الأستاذ إلياس، ومن هذا المكان كاد الشيخ هاشم يقفز من الدور الثاني عندما فاجأنا الزلزال ونحن ندرس فى الحصة مادة التربية الدينية.

ظللت واقفًا لبعض الوقت، أستعيد الذكريات التى عفا عليها الزمن، قلت لأخى محمود،  هل تتذكر أيام أن كنا نأتى إلى المدرسة مبكرًا قبل الآخرين. كنت فى هذا الوقت مسئولًا عن الإذاعة المدرسية وكنت أشعل الإذاعة بكلماتي عن الوطن الذى تعرض لنكسة 67، كنت أستمع إلى ما تقوله إذاعة صوت العرب من تعليقات كل صباح، فأذهب إلى المدرسة الابتدائية لأشحن همم التلاميذ، وبعد انتهاء حصص المدرسة اصطحب بعضا منهم لنذهب إلى مقر الشرطة العسكرية المجاور لترعة السيول، وأهتف: تحيا الشرطة العسكرية، وكان التلاميذ يرددون الهتافات من خلفي.

قرية «المعنا»

3- مخيم إيواء أهالي قرية المعنا 

مضينا إلى منطقة مرتفعة خلف البلدة هى منطقة الجبل التي تبدو مرتفعة عن مستوى البلدة. هنا نصبت الخيام سريعًا أكثر من 101 خيمة مقسمة على 154 أسرة، أى أن هناك نحو 53 أسرة تعيش فى خيام مشتركة.
بعد جولة استمرت ساعات، استمعنا فيها أنا وشقيقى محمود لشكاوى حول خطورة الأزمة، ذهبنا إلى مكتب محافظ قنا اللواء صفوت شاكر، ووعد بالنزول معنا إلى الأهالي وجاء إلينا وبرفقته اللواء سعد الجمال مدير أمن قنا، واللواء أحمد سعد، وعدد من كبار المسئولين وتحديدًا من العاملين بمديرية الشئون الاجتماعية والشئون الصحية وبعض الجمعيات الخيرية، التي تكاتفت وقدمت الكثير من الغذاء والدواء.
وكان عدد البيوت التي انهارت نحو 2500 منزل، وكان عدد المشردين لا يقل عن خمسة عشر ألف مشرد، بعضهم ظل مصممًا على أن يبقى تحت الجدران المهددة بالسقوط ورفض الذهاب إلى المعسكر المقام بجوار الجبل، امرأة فقيرة من بلدتي تشكو للمحافظ من حجم الكارثة، ظللت أتابع كل الشكاوى التي أراها ماثلة للعيان، وبعد عدة أيام قضيتها وسط أهلي، عدت إلى القاهرة لأبحث عن حل.

قرية «المعنا» بعد سيول 96 

فى هذا الوقت دعاني د. أسامة الباز، مستشار الرئيس للشئون السياسية إلى الغداء في فندق سميراميس، وكان معه رجل الأعمال إبراهيم كامل، تحدثت معهما عن المأساة التي تعيشها بلدتي من جرّاء السيول، فوعدني إبراهيم كامل، بالبحث عن التمويل اللازم لإعادة بناء القرية.. أسعدني الخبر كثيرًا، وظللت أتابع الأمر بدأب معه، أجرى اتصالات عديدة مع كبار المسئولين، وما هى إلا أيام قليلة حتى فوجئت بالأستاذ إبراهيم كامل يتصل بي ويبلغني انه استطاع تدبير المبلغ من جمعية رعاية الأمومة والطفولة، وكان المبلغ 5.5مليون جنيه، بالإضافة إلى مبالغ أخرى تم تدبيرها بالاتفاق مع محافظ قنا لبناء منازل البلدة.
كانت سعادتي بالغة، مضيت إلى بلدتي ووصلت هناك بعد نحو 12 ساعة فى القطار، وعندما أبلغت ساكني الخيام بالخبر بكى الكثير منهم فرحًا، فالناس كانوا قد ملوا من المبيت فى الخيام، التي لا تسترهم ولا تستر أعراضهم.
كان الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي، وهو من أبناء قرية أبنود التي لا يفصلها عن بلدتي سوى كيلومترات معدودة، يتواصل معي كثيرًا فى هذا الوقت، لقد جمعتني به صداقة عميقة، وكنا نلتقى فى القاهرة كثيرًا، لقد دعوته إلى زيارة أهلنا المنكوبين فى "المعنا"، وكررت الدعوة نفسها على الصديق الفنان حمدي أحمد، وهو أيضًا من أبناء المنشاة بمحافظة سوهاج، وبالفعل ما هى إلا أيام قليلة حتى حضر الأبنودي وحمدي أحمد ومضيت بهما أنا وشقيقي محمود، حيث كان بقية أشقائي قد أعدوا اللقاء الذى جمعهم مع المنكوبين، كان استقبال الناس لهما عظيمًا، وقد سعد أبناء بلدتي كثيرًا بوجود الأبنودي وحمدي أحمد معهم وفى هذه الظروف تحديدًا.
مضت الأيام وتم بناء البلدة بالمساكن الحديثة، والمرافق حتى أصبحت نموذجًا يُحتذى. وتمضى الأيام ويطلق أهالي قنا على بلدتنا "جاردن سيتي قنا". 

لقد وصلها الصرف الصحي فى الثمانينيات، عندما كان أخي محمود لا يتوقف عن متابعة الأمر، وأصبح بها عدد من المدارس الابتدائية والإعدادية و وحدة صحية، ومعهد أزهري ودار للأيتام ترعى المئات وتقدم لهم كل سبل الرعاية حيث تضم الدار حضانة وتعليم لغات ومشغلا ومكتبا للمساعدات، و وحدة طبية بأجر رمزي وغيرها، وجرى إقامة مصنع لإنتاج الملابس يعمل فيه أكثر من 500 فتاة، ومركز نموذجي للشباب ومكتبة كبرى، وفرقة مسرحية أصبح لها شهرة عالمية "فرقة أناكوندا"، وحديقة على مساحة 6 آلاف متر، كما تم رصف شوارعها الرئيسية والجانبية، وأقيم بها مكتب للبريد وماكينة صرف آلي لبنك مصر وغيرها من سبل الخدمات الضرورية.

الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي 

كانت بلدتي ولا زالت هى الرئة التي أتنفس منها، لا يمضى شهر إلا وأزورها مرة أو اثنتين على الأقل.. هنا أشعر بالراحة النفسية، بالاطمئنان، بالجذور التي تسكن الذاكرة ولا تبرحها.. فى كل جزء، فى كل شارع، فى كل ديوان من دواوين العائلات ذكريات لا تنسى وتاريخ يبقى خالدًا، كم كانت الأيام الجميلة ولا زالت!
ومع كل أزمة، وكل مشكلة، أهرع إلى بلدتي، أحتمى بها، بناسها البسطاء وأرضها الطيبة، هنا قبر أمي وقبر أبى، وقبر أخي الحبيب محمود، هنا الماضي والحاضر والمستقبل.
وعندما أقول: "هنا"، فأنا أعنى الزمان والمكان والبشر.

search